أي : أنصتوا (لَهُ) وتدبروه ، ثم فسره بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ) أي : تعبدون وتدعونهم في حوائجكم وتجعلونهم آلهة (مِنْ دُونِ اللهِ) أي : الملك الأعلى من هذه الأصنام التي أنتم بها مغترّون (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) أي : لا قدرة لهم على ذلك في زمن من الأزمان على حال من الأحوال مع صغره فكيف بما هو أكبر منه (وَلَوِ اجْتَمَعُوا) أي : الذين زعمتموهم شركاء (لَهُ) أي : الخلق فهم في هذا أمثالكم.
تنبيه : محل (وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) النصب على الحال كأنه قال تعالى : يستحيل أن يخلقوا الذباب مشروطا عليهم اجتماعهم لخلقه وتعاونهم عليه ، وهذا من أبلغ ما أنزل الله تعالى في تجهيل قريش واستركاك عقولهم ، والشهادة على أنّ الشيطان قد خدعهم بخداعه حيث وصفوا بالإلهية التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلها والإحاطة بالمعلومات عن آخرها صورا وتماثيل يستحيل منها أنّ تقدر على أقل ما خلقه الله تعالى وأذله وأصغره وأحقره ، ولو اجتمعوا لذلك وتساندوا وأدل من ذلك على عجزهم وانتفاء قدرتهم أنّ هذا الخلق الأقل الأذل لو اختطف منهم شيئا فاجتمعوا على أنّ يستخلصوه منه لم يقدروا كما قال تعالى : (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ) أي : الذي تقدّم أنهم لا قدرة لهم على خلقه ، وهو غاية في الحقارة (شَيْئاً) أي : من الأشياء جلّ أو قلّ (لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) لعجزهم ، فكيف يجعلونهم شركاء لله؟ هذا أمر مستغرب عبر عنه بضرب مثل.
تنبيه : الذباب مفرد وجمعه القليل : أذبة ، والكثير : ذبان مثل غراب وأغربة وغربان ، وعن ابن عباس أنهم كانوا يطلون الأصنام بالزعفران ورؤوسها بالعسل ، ويغلقون عليها الأبواب فيدخل الذباب من الكوى فيأكله. وعن ابن زيد : كانوا يحلون الأصنام باليواقيت واللآلىء ، وأنواع الجواهر ويطيبونها بألوان الطيب فربما يسقط شيء منها فيأخذه طائر أو ذباب فلا تقدر الآلهة على استرداده منه (ضَعُفَ الطَّالِبُ) قال الضحاك : هو العابد (وَالْمَطْلُوبُ) المعبود ، وقال ابن عباس : الطالب الذباب يطلب ما يسلب من الطيب الذي على الصنم ، والمطلوب هو الصنم ، وقيل : على العكس الطالب الصنم ، والمطلوب الذباب ، أي : لو طلب الصنم أنّ يخلق الذباب لعجز عنه.
ولما أنتج هذا جهلهم بالله عزوجل عبّر عنه بقوله تعالى : (ما قَدَرُوا اللهَ) أي : الذي له الكمال كله (حَقَّ قَدْرِهِ) أي : ما عظموه حق تعظيمه ، وما عرفوه حق معرفته ولا وصفوه حق صفته حيث أشركوا به ما لا يمتنع عن الذباب ولا ينتصف منه (إِنَّ اللهَ) أي : الجامع لصفات الكمال (لَقَوِيٌ) على خلق الممكنات بأسرها (عَزِيزٌ) أي : لا يغلبه شيء وآلهتهم التي يعبدونها عاجزة عن أقلها مقهورة من أذلها ؛ قال الكلبي في هذه الآية وفي نظيرها في سورة الأنعام أنها نزلت في جماعة من اليهود مالك بن الصيف ، وكعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ، وغيرهم حيث قالوا : إنّ الله تعالى لما فرغ من خلق السموات والأرض وأجناس خلقها استلقى واستراح ووضع إحدى رجليه على الأخرى فنزلت هذه الآية تكذيبا لهم ، ونزل قوله تعالى : (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) [ق ، ٣٨] ؛ قال الرازي : واعلم أنّ منشأ هذه الشبهة هو القول بالتشبيه فيجب تنزيه ذات الله تعالى عن مشابهة سائر الذوات خلاف ما يقوله المشبهة ، وتنزيه صفاته عن مشابهة سائر الصفات خلاف ما يقوله الكرامية ، وتنزيه أفعاله عن مشابهة سائر الأفعال أعني عن الغرض والدواعي واستحقاق المدح والذم خلاف ما يقوله المعتزلة ، قال أبو القاسم الأنصاري رحمهالله تعالى : فهو سبحانه