أنه لا يسجد وهو قول سفيان الثوري ، وقول أبي حنيفة وأصحابه ؛ لأنهم يقولون : قرن السجود بالركوع في ذلك ، فدل ذلك على أنها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة.
ولما كان الجهاد أساس العبادة وهو مع كونه حقيقة في جهاد الكفار صالح لأنّ يعم كل أمر بمعروف ونهي عن منكر بالمال والنفس بالقول والفعل ، بالسيف وغيره وكل جهاد في تهذيب النفس وإخلاص العمل ختم به فقال تعالى : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ) أي : لله ومن أجله أعداء دينه الظاهرة كأهل الزيغ والباطنة كالهوى والنفس ، وقول البيضاوي : وعنه عليه الصلاة والسّلام أنه رجع من غزوة تبوك فقال : «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» (١). حديث رواه البيهقي وضعف إسناده ، وقال غيره : لا أصل له ، قيل : أراد بالأصغر جهاد الكفار وبالأكبر جهاد النفس (حَقَّ جِهادِهِ) أي : باستفراغ الطاقة في كل ما أمر به من جهاد العدوّ والنفس على الوجه الذي أمر به من الحج والغزو وغيرهما.
فإن قيل : ما وجه هذه الإضافة ، وكان القياس في حق الجهاد في الله أو حق جهادكم في الله ، كما قال تعالى : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ؟) أجيب : بأنّ الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص ، فلما كان الجهاد مختصا بالله من حيث إنه مفعول لأجله صحت إضافته إليه ، وعن مجاهد عن الكلبي أنّ هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن ، ١٦] ، ولما أمر الله تعالى بهذه الأوامر أتبعها ببعض ما يجب به شكره وهو كالتعليل لما قبله فقال تعالى : (هُوَ اجْتَباكُمْ) أي : اختاركم لدينه ولنصرته ، وجعل الرسالة فيكم والرسول منكم وجعله أشرف الرسل ، ودينه أشرف الأديان ، وكتابه أعظم الكتب ، وجعلكم لكونكم أتباعه خير الأمم (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ) أي : الذي اختاره لكم (مِنْ حَرَجٍ) أي : من ضيق وشدّة وهو أنّ المؤمن لا يبتلى بشيء من الذنوب إلا جعل الله تعالى له منه مخرجا بعضها بالتوبة وبعضها بردّ المظالم والقصاص ، وبعضها بأنواع الكفارات من الأمراض والمصائب وغير ذلك ، فليس في دين الإسلام ما لا يجد العبد سبيلا إلى الخلاص من الذنوب ومن العقاب لمن وفقه الله تعالى وسهله عند الضرورات كالقصر والتيمم وأكل الميتة والفطر للمريض والمسافر ، وغير ذلك ؛ قال صلىاللهعليهوسلم : «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» (٢) رواه البخاري ، وعن ابن عباس أنه قال : الحرج ما كان على بني اسرائيل من الآصار التي كانت عليهم وضعها الله تعالى عن هذه الأمة ، وقوله تعالى : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ) نصب بنزع الخافض وهو الكاف أو على المصدر بفعل دل عليه مضمون ما قبله بحذف المضاف أي : وسع دينكم توسعة ملة أبيكم أو على الإغراء أي : اتبعوا ملة أبيكم ، أو على الاختصاص أي : أعني بالدين ملة أبيكم كقولك : الحمد لله الحميد ، وقوله تعالى : (إِبْراهِيمَ) عطف بيان.
فإن قيل : لم كان إبراهيم أبا للأمة كلها؟ أجيب : بأنه أبو رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فكان أبا لأمّته ؛ لأنّ أمّة الرسول في حكم أولاده. واختلف في عود ضمير (هُوَ) على قولين أحدهما أنه يعود على
__________________
(١) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٦ / ٣٧٩ ، ٧ / ٢١٨ ، والعجلوني في كشف الخفاء ١ / ٥١١ ، وعلي القاري في الأسرار المرفوعة ٢٠٦.
(٢) أخرجه البخاري في الاعتصام حديث ٧٢٨٨ ، ومسلم في الحج حديث ٤١٢ ، والفضائل حديث ١٣ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢ ، ٥٠٨.