تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ) أي : من جرمها وهو ظاهر اللفظ وعليه أكثر المفسرين أو من السحاب وسماه سماء لعلوه (ماءً بِقَدَرٍ) أي : بقدر ما يكفيهم لمعاشهم في الزرع والغرس والشرب وأنواع المنفعة ، ويسلمون معه من المضرة إذ لو كان فوق ذلك لأغرقت البحار الأقطار ، ولو كان دون ذلك لأدّى إلى جفاف النبات والأشجار (فَأَسْكَنَّاهُ) أي : فجعلناه ثابتا مستقرا (فِي الْأَرْضِ) كقوله تعالى : (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) [الزمر ، ٢١] ، وعن ابن عباس عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «أنّ الله تعالى أنزل من الجنة خمسة أنهار سيحون نهر الهند ، وجيحون نهر بلخ ، ودجلة والفرات نهرا العراق ، والنيل نهر مصر أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض ، وجعل فيها منافع للناس من أصناف معايشهم ، فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله تعالى جبريل فرفع من الأرض القرآن والعلم كله والحجر الأسود من ركن البيت ، ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه ، وهذه الأنهار الخمسة فيرفع كل ذلك إلى السماء» (١) وذلك قوله تعالى : (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) قدرة هي في نهاية العظمة ، فإنّا كما قدرنا على إيجاده واختراعه نقدر على رفعه وإزالته وزواله ، فإذا رفعت هذه الأشياء كلها من الأرض فقد أهلها خير الدين والدنيا ؛ قال البغوي : وروى هذا الحديث الإمام الحسن بن سفيان عن عثمان بن سعيد عن سابق الإسكندري عن سلمة بن علي عن مقاتل بن حبان.
تنبيه : في تنكير ذهاب إيماء إلى تكثير طرقه ، وفيه إيذان باقتدار المذهب وأنه لا يتعايا عليه شيء إذا أراده ، وهو أبلغ في الإيعاد من قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) [الملك ، ٣٠] ، فعلى العباد أنّ يستعظموا النعمة في الماء ويقيدوها بالشكر الدائم ، ويخافوا نفادها إذا لم تشكر.
ثم إنه تعالى سبحانه لما نبه على عظم نعمته بخلق الماء ذكر بعده هذه النعمة الحاصلة من الماء بقوله تعالى : (فَأَنْشَأْنا) أي : فأخرجنا وأحيينا (لَكُمْ) خاصة لا لنا (بِهِ) أي : بذلك الماء الذي جعلنا منه كل شيء حي (جَنَّاتٍ) أي : بساتين (مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) صرح بهذين الصنفين لشرفهما ولأنهما أكثر ما عند العرب من الثمار ، وسمى الأوّل باسم شجرته لكثرة ما فيها من المنافع المقصودة بخلاف الثاني ، فإنه المقصود من شجرته ، وأشار إلى غيرهما بقوله تعالى : (لَكُمْ) أي : خاصة (فِيها) أي : الجنات (فَواكِهُ كَثِيرَةٌ) تتفكهون بها (وَمِنْها) أي : ومن الجنات من ثمارها وزروعها (تَأْكُلُونَ) رطبا ويابسا وتمرا وزبيبا.
وقوله تعالى : (وَشَجَرَةً) عطف على جنات أي : وأنشأنا لكم شجرة أي : زيتونة (تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) وهو الجبل الذي كلم الله تعالى عليه موسى بن عمران بين مصر وإيلة ، وقيل : بفلسطين ، وفي رواية أخرى : طور سينين ، ولا يخلو إما أنّ يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء أو سينين ، وإما أن يكون اسما للجبل مركبا من مضاف ومضاف إليه كامرىء القيس ، وبعلبك فيمن أضاف ، فمن كسر سين سيناء وهو نافع وابن كثير وأبو عمرو ، فقد منع الصرف للتعريف والعجمة والتأنيث لأنها بقعة ، وفعلاء لا تكون ألفه للتأنيث كعلباء وحرباء ، ومن قرأ بفتح السين وهم الباقون
__________________
(١) أخرجه العجلوني في كشف الخفاء ١٥٢٥.