للعبث ، ولم يدعنا إلى خلقكم إلا حكمة اقتضت ذلك ، وهي أن نتعبدكم ونكلفكم المشاق من الطاعات وترك المعاصي (وَ) حسبتم (أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) في الآخرة للجزاء ، وروى البغوي بسنده عن أنس «أن رجلا مصابا مرّ به على ابن مسعود فرقاه في أذنه أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ، ثم ختم السورة فبرىء فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : والذي نفسي بيده لو أن رجلا موقنا قرأها على جبل لزال» (١).
وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء الفوقية وكسر الجيم ، والباقون بضم الفوقية وفتح الجيم.
ثم نزّه سبحانه وتعالى نفسه عما يقوله ويصفه به المشركون بقوله تعالى : (فَتَعالَى اللهُ) أي : الذي له الجلال والجمال علوا كبيرا عن العبث ، وغيره مما لا يليق به (الْمَلِكُ) أي : المحيط بأهل مملكته علما وقدرة وسياسة وحفظا ورعاية (الْحَقُ) أي : الذي لا يتطرق الباطل إليه في شيء في ذاته ولا في صفاته فلا زوال له ولا لملكه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا يوجد له نظير أصلا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ، فهو متعال عن سمات النقص والعبث ، ثم زاد في التعيين والتأكيد والتفرد بوصفه بصفة لا يدعيها غيره بقوله تعالى : (رَبُّ الْعَرْشِ) أي : السرير المحيط بجميع الكائنات التي تنزل منه محكمات الأقضية والأحكام ولذا وصفه بالكرم فقال : (الْكَرِيمِ) أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين.
ولما بيّن سبحانه وتعالى أنه الملك الحق لا إله إلا هو أتبعه بأن من ادّعى إلها آخر ، فقد ادعى باطلا بقوله تعالى : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ) أي : الملك الذي لاكفء له (إِلهاً آخَرَ) يعبده (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) أي : بسبب دعائه بذلك إذا اجتهد في إقامة برهان على ذلك لم يجد ، ثم ذكر أن من قال ذلك فجزاؤه العقاب العظيم بقوله تعالى : (فَإِنَّما حِسابُهُ) أي : جزاؤه الذي لا يمكن زيادته ولا نقصه (عِنْدَ رَبِّهِ) أي : الذي رباه ولم يربه أحد سواه الذي هو أعلم بسريرته وعلانيته ، فلا يخفى عليه شيء من أمره ، ولما افتتح السورة بقوله : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) ختمها بقوله : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) أي : لا يسعدون ، فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة.
ولما شرح الله تعالى أحوال الكفار في جهلهم في الدنيا وعذابهم في الآخرة أمر الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسّلام بالانقطاع إليه والالتجاء إلى غفرانه ورحمته بقوله تعالى : (وَقُلْ رَبِ) أي : أيها المحسن إليّ (اغْفِرْ وَارْحَمْ) أي : أكثر من هذين الوصفين (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) فمن رحمته أفلح بما توفقه له من امتثال ما أشرت إليه أول السورة ، فكان من المؤمنين وكان من الوارثين الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ، فقد انطبق على الأول هذا الآخر بفوز كل مؤمن وخيبة كل كافر ، فنسأل الله تعالى أن يكون لنا ولوالدينا ولأحبابنا أرحم راحم وخير غافر إنه المتولي للسرائر والمرجو لإصلاح الضمائر ، وما رواه البيضاوي تبعا للزمخشري من أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «من قرأ سورة المؤمنون بشرته الملائكة بالروح والريحان ، وما تقرّ به عينه عند نزول ملك الموت» (٢) حديث موضوع ، وقوله أيضا تبعا للزمخشري : روي أن أول سورة قد أفلح وآخرها من كنوز العرش من عمل بثلاث آيات من أولها واتعظ بأربع آيات من آخرها فقد نجا وأفلح ، قال شيخ شيخنا ابن حجر حافظ عصره : لم أجده.
__________________
(١) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٥ / ١٧.
(٢) ذكره الزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٠٩.