بعدها حرف نداء ومناداه محذوف كما حذفه من قال (١) :
ألا يا اسلمي يا دار ميّ على البلى |
|
ولا زال منهلا بجرعائك القطر |
ويقف الكسائي على ألا ، وعلى يا ، وعلى اسجدوا ، وإذا ابتدأ اسجدوا ابتدأ بالضم ، ثم وصف الله تعالى بما يوجب اختصاصه باستحقاق السجود من الاتصاف بكمال القدرة والعلم حثا على السجود له وردّا على من يسجد لغيره سبحانه وتعالى بقوله : (الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ) وهو مصدر بمعنى المخبوء من المطر والنبات وغيرهما وخصه بقوله : (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لأنّ ذلك منتهى مشاهدتنا فننظر ما يكون فيهما بعد أن لم يكن من سحاب ومطر ونبات وتوابع ذلك من الرعد والبرق وما يشرق من الكواكب ويغرب إلى غير ذلك من الرياح والحرّ والبرد وما لا يحصيه إلا الله تعالى (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ) في قلوبهم (وَما تُعْلِنُونَ) بألسنتهم ، وقرأ الكسائي وحفص بالتاء الفوقية فيهما ، والباقون بالتحتية ، فالخطاب ظاهر على قراءة الكسائي لأنّ ما قبله أمرهم بالسجود وخاطبهم به ، والغيبة على قراءة الباقين غير ظاهرة لتقدّم الضمائر الغائبة في قوله (أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ) و (فَهُمْ) وأمّا قراءة حفص فتأويلها أنه خرج إلى خطاب الحاضرين بعد أن أتم قصة أهل سبأ ، ويجوز أن تكون إلتفاتا على أنه نزل الغائب منزلة الحاضر فخطابه ملتفتا إليه.
وقوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أي : الذي هو أوّل الأجرام وأعظمها والمحيط بجملتها ، يحتمل أن يكون من كلام الهدهد استدراكا لما وصف عرش بلقيس بالعظم ، وأن يكون من كلام الله تعالى ردّا عليه في وصفه عرشها بالعظم فبين العظمتين بون عظيم ، فإن قيل : من أين للهدهد التهدي إلى معرفة الله ووجوب السجود له وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلى الشيطان وتزيينه؟.
أجيب : بأنه لا يبعد أن يلهمه الله تعالى ذلك كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوان المعارف اللطيفة التي لا تكاد العقلاء الرجاح العقول يهتدون لها ، خصوصا في زمن نبي سخرت له الطيور وعلم منطقها وجعل ذلك معجزة له ، وهذه آية سجدة واختلف في محلها ، هل هو هذه الآية أو عند قوله قبلها وما يعلنون؟ الجمهور على الأوّل.
ولما فرغ الهدهد من كلامه. (قالَ) له سليمان (سَنَنْظُرُ) أي : نختبر ما قلته (أَصَدَقْتَ) فيه فنعذرك (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) أي : معروفا بالانخراط في سلكهم فإنه لا يجترئ على الكذب عندي إلا من كان غريقا في الكذب فهو أبلغ من أم كذبت ، وأيضا لمحافظة الفواصل ، ثم شرع فيما يختبره به فكتب له كتابا على الفور في غاية الوجازة قصدا للإسراع في إزالة المنكر على تقدير صدق الهدهد بحسب الاستطاعة ، ودل على إسراعه في كتابته بقوله جوابا له. (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا) فكأنه كان مهيأ عنده فدفعه إليه وأمره بالإسراع ، فطار كأنه البرق ولهذا أشار بالفاء في قوله : (فَأَلْقِهْ
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو لذي الرمة في ديوانه ص ٥٥٩ ، والإنصاف ١ / ١٠٠ ، وتخليص الشواهد ص ٢٣١ ، ٢٣٢ ، والخصائص ٢ / ٢٧٨ ، والدرر ٢ / ٤٤ ، ٤ / ٦١ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ٢٣٢ ، ولسان العرب (يا) ، ومجالس ثعلب ١ / ٤٢ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ١ / ٢٣٥ ، والدرر ٥ / ١١٧ ، وشرح ابن عقيل ص ١٣٦.