يتهموا بذلك فطرحوا ما معهم في ذلك الموضع الخالي فلما رأوا الشياطين نظروا إلى منظر عجيب ففزعوا ، فقالت لهم الشياطين جوزوا فلا بأس عليكم ، فكانوا يمرّون على كردوس من الجنّ والإنس والطير والسباع والوحوش حتى وقفوا بين يدي سليمان ، فنظر إليهم سليمان نظرا حسنا بوجه طلق وقال : ما وراءكم؟ فأخبره رئيس القوم بما جاءوا له وأعطاه كتاب الملكة فنظر فيه وقال أين الحقة؟ فأتى بها فحركها وجاء جبريل عليهالسلام فأخبره بما في الحقة فقال : إنّ فيها درة ثمينة غير مثقوبة وجزعة مثقوبة معوّجة الثقب ، فقال الرسول صدقت فاثقب الدرّة وأدخل الخيط في الخرزة ، فقال سليمان عليهالسلام من لي بثقبها فسأل سليمان الإنس ثم الجنّ فلم يكن عندهم علم بذلك ثم سأل الشياطين فقالوا أرسل إلى الأرضة فجاءت الأرضة فأخذت شعرة في فيها فدخلت فيها حتى خرجت من الجانب الآخر ، فقال لها سليمان سلي حاجتك قالت تصير رزقي في الشجرة فقال لك ذلك ، وروي أنها جاءت دودة تكون في الصفصاف فقالت أنا أدخل الخيط في الثقب على أن يكون رزقي في الصفصاف فجعل لها ذلك ، فأخذت الخيط بفيها ودخلت الثقب وخرجت من الجانب الآخر ، ثم قال من لهذه الخرزة بسلكها بالخيط فقالت دودة بيضاء أنا لها يا رسول الله فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر فقال لها سليمان سلي حاجتك قالت : تجعل رزقي في الفواكه قال لك ذلك ، ثم ميز بين الجواري والغلمان بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم فجعلت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها ثم تجعله على اليد الأخرى ثم تضرب به الوجه ، والغلام يأخذ من الآنية بيديه ويضرب بهما وجهه وكانت الجارية تصب الماء على باطن ساعدها ، والغلام على ظاهر الساعد وكانت الجارية تصبّ الماء صبا ، وكان الغلام يحدر الماء على ساعده حدرا ، فميز بينهم بذلك.
ثم ردّ سليمان الهدية كما قال تعالى : (فَلَمَّا جاءَ) أي : الرسول الذي بعثته ، والمراد به الجنس ، قال أبو حيان وهو يقع على الجمع والمفرد والمذكر والمؤنث (سُلَيْمانَ) ورفع إليه ذلك (قالَ) أي : سليمان عليهالسلام للرّسول ولمن في خدمته استصغارا لما معه (أَتُمِدُّونَنِ) أي : أنت ومن معك ومن أرسلك (بِمالٍ) وإنما قصدي لكم لأجل الدين تحقيرا لأمر الدنيا وإعلاما بأنه لا التفات له نحوها بوجه ولا يرضيه شيء دون طاعة الله تعالى ، وقرأ نافع وأبو عمرو : بإثبات الياء وصلا لا وقفا ، وابن كثير : بإثبات الياء وصلا ووقفا ، وحمزة بإدغام النون الأولى في الثانية وإثبات الياء وصلا ووقفا ، ثم تسبب عن ذلك قوله استصغارا لما معهم (فَما آتانِيَ اللهُ) أي : الملك الأعظم من الحكمة والنبوّة والملك ، وهو الذي يغني مطيعه عن كل شيء سواه فمهما سأله أعطاه ، وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص : بفتح الياء في الوصل ، ولقالون وأبي عمرو وحفص أيضا إثباتها وقفا ، والباقون بحذف الياء وقفا ووصلا ، وأمالها حمزة والكسائي محضة ، وورش بالفتح وبين اللفظين (خَيْرٌ) أي : أفضل (مِمَّا آتاكُمْ) أي : من الملك الذي لا دين ولا نبوّة فيه (بَلْ أَنْتُمْ) أي : بجهلكم بالدين (بِهَدِيَّتِكُمْ) أي : بإهداء بعضكم إلى بعض (تَفْرَحُونَ) وأمّا أنا فلا أفرح بها وليست الدنيا من حاجتي لأنّ الله تعالى قد مكنني فيها وأعطاني منها ما لم يعط أحدا ، ومع ذلك أكرمني بالدين والنبوّة.
ثم قال للمنذر بن عمرو أمير الوفد. (ارْجِعْ) أي : بهديتهم وجمع في قوله (إِلَيْهِمْ) إكراما لنفسه وصيانة لاسمها عن التصريح بضميرها وتعظيما لكل من يهتم بأمرها ويطيعها (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ