قالوا : إنها قد أصابت في جوابها وهي عاقلة وقد رزقت الإسلام ، ثم عطفوا على ذلك قولهم (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ) يعني بالله تعالى وبقدرته على ما يشاء من قبل هذه المرأة في مثل علمها وغرضهم من ذلك شكر الله تعالى في أن خصهم بمزيد التقديم في الإسلام قاله مجاهد ، وقيل : معناه وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها وكنا مسلمين طائعين لله تعالى.
واختلف في فاعل قوله عزوجل : (وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ) على ثلاثة أوجه : أحدها : ضمير البارئ تعالى ، الثاني ضمير سليمان عليهالسلام ، أي : منعها ما كانت تعبد من دون الله وهو الشمس ، وعلى هذا فما كانت تعبد منصوب على إسقاط الخافض ، أي : وصدّها الله تعالى أو سليمان عما كانت تعبد من دون الله قاله الزمخشريّ مجوزا له ، قال أبو حيان وفيه نظر من حيث إنّ حذف الجار ضرورة كقوله (١) :
تمرّون الديار فلم تعوجوا
وقد تقدم آيات كثيرة من هذا النوع ، والثالث : أنّ الفاعل هو ما كانت أي : صدّها ما كانت تعبد عن الإسلام أي : صدّها عبادة الشمس عن التوحيد وقوله تعالى : (إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) استئناف أخبر الله تعالى أنها كانت من قوم يعبدون الشمس ، فنشأت بينهم ولم تعرف العبادة ولم تعرف إلا عبادة الشمس.
ولما تم ذلك فكأنه قيل : هل كان بعد ذلك اختبار؟ فقيل نعم.
(قِيلَ لَهَا) أي : قائل من جنود سليمان عليهالسلام فلم يمكنها المخالفة (ادْخُلِي الصَّرْحَ) وهو سطح من زجاج أبيض شفاف تحته ماء جار فيه سمك اصطنعه سليمان.
ولما قالت له الشياطين إنّ رجليها كحافر الحمار وهي شعراء الساقين ، فأراد أن ينظر إلى ساقيها من غير أن يسألها كشفهما ، وقيل الصرح صحن الدار أجرى تحته الماء وألقى فيه كل شيء من دواب البحر السمك والضفادع وغيرهما ثم وضع سريره في صدره وجلس عليه وعكف عليه الطير والجنّ والأنس ، وقيل : اتخذ صحنا من قوارير وجعل تحتها تماثيل من الحيتان والضفادع فكان الواحد إذا رآه ظنه ماء (فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً) وهي معظم الماء (وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) لتخوضه فنظر إليها سليمان فرآها أحسن الناس ساقا وقدما إلا أنها كانت شعراء الساقين.
ما رأى سليمان ذلك صرف نظره عنها ، وناداها بأن (قالَ) لها (إِنَّهُ) أي : هذا الذي ظننته ماء (صَرْحٌ مُمَرَّدٌ) أي : مملس ومنه الأمرد لملاسة وجهه من الشعر (مِنْ) أي : كائن من (قَوارِيرَ) أي : زجاج وليس بماء ، ثم إنّ سليمان دعاها إلى الإسلام وكانت قد رأت حال العرش والصرح فأجابت بأن (قالَتْ رَبِ) أي : أيها المحسن إليّ (إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) أي : بما كنت فيه من العمى بعبادة غيرك عن عبادتك (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ) أي : مقرّة له بالألوهية والربوبية على سبيل الوحدانية ، ثم رجعت إشارة للعجز عن معرفة الذات حق المعرفة إلى الأفعال التي هي
__________________
(١) عجزه :
كلامكم عليّ إذا حرام
والبيت من الوافر ، وهو لجرير في ديوانه ص ٢٧٨ ، والأغاني ٢ / ١٧٩ ، وتخليص الشواهد ص ٥٠٣ ، وخزانة الأدب ٩ / ١١٨ ، والدرر ٥ / ١٨٩ ، ولسان العرب (مرر) ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٦ / ١٤٥ ، وشرح ابن عقيل ص ٢٧٢.