لربه لما آتاه الله تعالى من هذه الخوارق (هذا) أي : الإتيان المحقق (مِنْ فَضْلِ رَبِّي) أي : المحسن إليّ لا بعمل أستحق به شيئا فإنه أحسن إليّ بإخراجي من العدم ونظر إليّ بتوفيقي للعمل فكل عمل نعمة يستوجب عليّ بها الشكر ، ولذلك قال (لِيَبْلُوَنِي) أي : ليختبرني (أَأَشْكُرُ) فاعترف بكونه فضلا (أَمْ أَكْفُرُ) بظني أني أوتيته باستحقاق.
تنبيه : ههنا همزتان مفتوحتان فنافع يسهل الهمزة الثانية ، وابن كثير وأبو عمرو وهشام بخلاف عنه ، وأدخل بينهما ألفا قالون وأبو عمرو وهشام ، ولم يدخل ورش وابن كثير ، ولورش أيضا إبدالها ألفا ، والباقون بالتحقيق وعدم الإدخال ، ثم زاد في حث نفسه على الشكر بقوله (وَمَنْ شَكَرَ) أي : أوقع الشكر لربه (فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) فإن نفعه لها وهو أن يستوجب تمام النعمة ودوامها لأنّ الشكر قيد للنعمة الموجودة وجلب للنعمة المفقودة (وَمَنْ كَفَرَ) أي : بالنعمة (فَإِنَّ رَبِّي) أي : المحسن إليّ بتوفيقي لما أنا فيه من الشكر (غَنِيٌ) عن شكره لا يضرّه تركه شيئا (كَرِيمٌ) أي : بإدرار الإنعام عليه فلا يقطعه عنه بسبب عدم شكره.
ولما حصل العرش عنده. (قالَ نَكِّرُوا) أي : غيروا (لَها عَرْشَها) أي : سريرها إلى حالة تنكره إذا رأته ، قال قتادة ومقاتل : هو أن يزاد فيه وينقص ، وروي أنه جعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه وجعل مكان الجوهر الأحمر أخضر ومكان الأخضر أحمر اختبارا لعقلها ، كما اختبرتنا بالوصفاء والوصائف والدرة وغير ذلك.
وإليه أشار بقوله (نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي) أي : إلى معرفته فيكون ذلك سببا لهدايتها في الدين (أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ) شأنهم أنهم (لا يَهْتَدُونَ) بل هم في غاية الغباوة ولا يتجدّد لهم اهتداء ، وقال وهب ومحمد بن كعب : إنما حمل سليمان على ذلك ، أنّ الشياطين خافت أن يتزوجها سليمان فتفشي له أسرار الجنّ لأنّ أمها كانت جنية وإذا ولدت له ولدا لا ينفكون عن تسخير سليمان وذرّيته من بعده ، فأساؤوا الثناء عليها ليزهدوه فيها ، فقالوا : إنّ في عقلها شيئا وإنّ رجليها كحافر الحمار وأنها شعراء الساقين ، فأراد سليمان عليه الصلاة والسلام أن يختبر عقلها بتنكير عرشها وينظر إلى قدميها ببناء الصرح.
ثم أشار إلى سرعة مجيئها إشارة إلى خضوعها بالتعبير بالفاء في قوله : (فَلَمَّا جاءَتْ) وكانت قد وضعت عرشها في بيت خلف سبعة أبواب ووكلت به حراسا أشدّاء (قِيلَ) لها وقد رأت عرشها بعد تنكيره (أَهكَذا عَرْشُكِ) أي : مثل هذا عرشك (قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) قال مقاتل : عرفته ولكنها شبهت عليهم كما شبهوا عليها ، وقال عكرمة : كانت حكيمة لم تقل نعم خوفا من أن تكذب ولم تقل لا خوفا من التكذيب فقالت كأنه هو فعرف سليمان كمال عقلها حيث لم تقر ولم تنكر ، وقيل : اشتبه عليها أمر العرش لأنها خلفته في بيت خلف سبعة أبواب مغلقة والمفاتيح معها فقيل لها فإنه عرشك فما أغنى عنك إغلاق الأبواب.
وقوله تعالى : (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها) فيه وجهان : أحدهما : أنه من كلام بلقيس فالضمير في قبلها راجع للمعجزة والحالة الدال عليها السياق ، والمعنى : وأوتينا العلم بنبوّة سليمان من قبل ظهور هذه المعجزة أو من قبل هذه الحالة ، وذلك لما رأت قبل ذلك من أمر الهدهد ورد الهدية والرسل من قبلها من قبل الآية في العرش (وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) أي : منقادين طائعين لأمر سليمان ، والثاني : أنه من كلام سليمان وأتباعه فالضمير في قبلها عائد على بلقيس فكان سليمان وقومه