منقطع أي : لكن الله يعلمه.
ولما كان الله تعالى منزها عن أن يحويه مكان جعل الاستثناء هنا منقطعا ، فإن قيل : من حق المنقطع النصب؟
أجيب : بأنه رفع بدلا على لغة بني تميم يقولون ما في الدار أحد إلا حمار يريدون ما فيها إلا حمار كأن أحدا لم يذكر ، ومنه قولهم : ما أتاني زيد إلا عمرو ، وما أعانه إخوانكم إلا أخوانه ، فإن قيل : ما الداعي إلى المذهب التميمي على الحجازي؟ أجيب : بأنه دعت إليه حاجة سرية حيث أخرج المستثنى مخرج قوله إلا اليعافير بعد قوله ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس ليؤل المعنى إلى قولك إن كان الله ممن في السموات والأرض فهم يعلمون الغيب بمعنى أنّ علمهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم ، كما أنّ معنى ما في البيت (١) إن كانت اليعافير أنيسا ففيها أنيس ، إنباء عن خلوها عن الأنيس.
ويصح أن يكون متصلا والظرفية في حقه تعالى مجاز بالنسبة إلى علمه وإن كان فيه جمع بين الحقيقة والمجاز كما قال به إمامنا الشافعيّ رضي الله تعالى عنه ، وإن منعه بعضهم ، ومن ذلك قول المتكلمين : الله تعالى في كل مكان على معنى أنّ علمه في الأماكن كلها فكأن ذاته فيها ، وعلى هذا فيرتفع على البدل والصفة ، والرفع أفصح من النصب لأنه منفي ، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية ، والله تعالى يقول : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) وعن بعضهم أخفى غيبه عن الخلق ولم يطلع عليه أحدا لئلا يأمن أحد من عبيده مكره ، وقوله تعالى : (وَما يَشْعُرُونَ) صفة لأهل السموات والأرض نفي أن يكون لهم علم بالغيب ، وإن اجتمعوا وتعاونوا (أَيَّانَ) أي : أيّ وقت (يُبْعَثُونَ) أي : ينشرون.
وقوله تعالى : (بَلِ) بمعنى هل (ادَّارَكَ) أي : بلغ وتناهى (عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) أي : بها حتى سألوا عن وقت مجيئها ، ليس الأمر كذلك (بَلْ هُمْ فِي شَكٍ) أي : ريب (مِنْها) كمن تحير في الأمر لا يجد عليه دليلا (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) لا يدركون دلائلها لاختلال بصيرتهم ، وهذا وإن اختص بالمشركين بمن في السموات والأرض ، نسب إلى جميعهم كما يسند فعل البعض إلى الكل.
فإن قيل : هذه الاضرابات الثلاثة ما معناها؟ أجيب : بأنها لتنزيل أحوالهم وصفهم أوّلا بأنّهم
__________________
(١) يشير إلى قول الشاعر :
وبلدة ليس بها أنيس |
|
إلّا اليعافير وإلّا العيس |
والرجز لجران العود في ديوانه ص ٩٧ ، وخزانة الأدب ١٠ / ١٥ ـ ١٨ ، والدرر ٣ / ١٦٢ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ١٤٠ ، وشرح التصريح ١ / ٣٥٣ ، وشرح المفصل ٢ / ١١٧ ، ٣ / ٢٧ ، و ٧ / ٢١ ، والمقاصد النحوية ٣ / ١٠٧ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ٩١ ، والإنصاف ١ / ٢٧١ ، وأوضح المسالك ٢ / ٢٦١ ، والجنى الداني ص ١٦٤ ، وجواهر الأدب ص ١٦٥ ، وخزانة الأدب ٤ / ١٢١ ، ١٢٣ ، ١٢٤ ، ٧ / ٣٦٣ ، ٩ / ٢٥٨ ، ٣١٤ ، ورصف المباني ص ٤١٧ ، وشرح الأشموني ١ / ٢٢٩ ، وشرح شذور الذهب ص ٣٤٤ ، وشرح المفصل ٢ / ٨٠ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ١٣٦ ، والكتاب ١ / ٢٦٣ ، ٢ / ٣٢٢ ، ولسان العرب (كنس) ، (ألا) ، ومجالس ثعلب ص ٤٥٢ ، والمقتضب ٢ / ٣١٩ ، ٣٤٧ ، ٤١٤ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٢٥ ، وتهذيب اللغة ١٥ / ٤٢٦ ، وتاج العروس (كنس) ، (ألا) ، (الواو).