تحرّكت في سمت واحد لا تكاد تتبين حركتها (وَهِيَ تَمُرُّ) أي : تسير حتى تقع على الأرض فتسوى بها مبثوثة ثم تصير كالعهن ثم تصير هباء منثورا ، وأشار تعالى إلى أن سيرها خفي وإن كان حثيثا بقوله تعالى : (مَرَّ السَّحابِ) أي : مرّا سريعا لا يدرك على ما هو عليه لأنه إذا أطبق الجوّ لا يدرك سيره مع أنه لا شك فيه وإلا لم تنكشف الشمس بلا لبس وكذلك كبير الجرم أو كثير العدد يقصر عن الإحاطة به لبعد ما بين أطرافه ولكثرته البصر والناظر الحاذق يظنه واقفا.
وقرأ تحسبها بكسر السين نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي وفتحها الباقون وقوله تعالى (صُنْعَ اللهِ) مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله أضيف إلى فاعله بعد حذف عامله ، أي : صنع الله ذلك صنعا ، ثم زاد في التعظيم بقوله دالا على تمام الإحكام في ذلك الصنع (الَّذِي أَتْقَنَ) أي : أحكم (كُلَّ شَيْءٍ) صنعه ولما ثبت هذا على هذا الوجه المتقن والنظام الأمكن أنتج قطعا قوله تعالى : (إِنَّهُ) أي : الذي أتقن هذه الأمور (خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) أي : عالم بظواهر الأحوال وبواطنها ليجازيهم عليها كما قال تعالى :
(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣))
(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) أي : الكاملة وهي الإيمان ، وعن ابن عباس الحسنة كلمة الشهادة (فَلَهُ خَيْرٌ) أي : أفضل (مِنْها) مضاعفا أقلّ ما يكون عشرة أضعاف إلى ما لا يعلمه إلا الله تعالى ، وقيل له خير : حاصل من جهتها وهو الجنة وفسر الجلال المحلي الحسنة بلا إله إلا الله ، وقال في (فَلَهُ) خير منها ، أي : بسببها فليس للتفضيل إذ لا فعل خير منها وهذا يناسب القول الثاني (وَهُمْ) أي : الجاؤون بها (مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ) أي : يومئذ إذ وقعت هذه الأحوال العظيمة (آمِنُونَ) أي : حتى لا يحزنهم الفزع الأكبر.
وقرأ يفعلون ابن كثير وأبو عمرو وهشام بالياء التحتية على الغيبة ، والباقون بالفوقية على الخطاب ، وقرأ وهم من فزع يومئذ آمنون الكوفيون بتنوين العين ، والباقون بغير تنوين وهم أعمّ فإنه يقتضي الأمن من جميع فزع ذلك اليوم ، وأمّا قراءة التنوين فتحتمل معنيين من فزع واحد وهو خوف العذاب ، وأمّا ما يلحق الإنسان من الرعب ومشاهدته فلا ينفك منه أحد ، ومن فزع شديد مفرط الشدّة لا يكتنهه الوصف وهو خوف النار ، وقرأ نافع والكوفيون : بفتح الميم من يومئذ والباقون بكسرها فإن قيل : أليس قال تعالى في أوّل الآية (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) [النمل ، ٨٧] فكيف نفى الفزع ههنا؟ أجيب : بأنّ الفزع الأوّل لا يخلو منه أحد عند الإحساس بشدّة تقع أو هول يفجأ إلا ما استثنى وإن كان المحسن آمنا من لحاق الضرر ، وأما الثاني فهو الخوف من العذاب.
(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) أي : التي لا سيئة مثلها وهي الشرك لقوله تعالى (فَكُبَّتْ) أي : بأيسر أمر (وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) بأن وليتها مع أنه ورد في الصحيح أنّ مواضع السجود التي أشرفها الوجه لا سبيل للنار عليها والوجه أشرف ما في الإنسان فإذا هان كان ما سواه أولى بالهوان ، والمكبوب