ولما أخبر تعالى بتهيئته للنبوّة أخبر بما هو سبب لهجرته وكأنها سنة بعد إبراهيم عليهالسلام بقوله تعالى :
(وَدَخَلَ) أي : موسى عليهالسلام (الْمَدِينَةَ) قال السدي : هي مدينة منف من أرض مصر ، وقال مقاتل : كانت قرية تدعى جابين على رأس فرسخين من مصر ، وقيل : مدينة عين شمس ، وقيل : غير ذلك (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) وهو وقت القائلة واشتغال الناس بالقيلولة ، وقال محمد بن كعب القرظي : دخلها فيما بين المغرب والعشاء ، وقيل : يوم عيد لهم وهم مشتغلون فيه بلهوهم ، وقيل : لما شب وعقل أخذ يتكلم بالحق وينكر عليهم فأخافوه فلا يدخل قرية إلا على تغفل واختلف في السبب الذي من أجله دخل المدينة في هذا الوقت.
قال السدي : وذلك أن موسى كان يسمى ابن فرعون فكان يركب مراكب فرعون ويلبس مثل ملابسه فركب فرعون يوما وليس عنده موسى فلما جاء موسى قيل له إن فرعون قد ركب فركب في أثره فأدركه المقيل بأرض منف فدخلها نصف النهار وليس في طرقها أحد.
وقال ابن إسحاق : كان لموسى شيعة من بني إسرائيل يسمعون منه ويقتدون برأيه فلما عرف ما هو عليه من الحق رأى فراق فرعون وقومه فخالفهم في دينهم فأخافوه فكان لا يدخل قرية إلا خائفا مستخفيا ، وقال ابن زيد.
ولما علا موسى فرعون بالعصا في صغره فأراد فرعون قتله فقالت امرأته هو صغير فترك قتله وأمر بإخراجه من مدينته فلم يدخل عليهم إلا بعد أن كبر وبلغ أشدّه (فَوَجَدَ فِيها) أي : المدينة (رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ) أي : يفعلان مقدّمات القتل مع الملازمة من الضرب والخنق وهما إسرائيلي وقبطيّ ، ولهذا قال تعالى مجيبا لمن كان يسأل عنهما وهو ينظر إليهما (هذا مِنْ شِيعَتِهِ) أي : من بني إسرائيل (وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) أي : من القبط ، قال مقاتل : كانا كافرين إلا أن أحدهما من القبط والآخر من بني إسرائيل لقول موسى عليهالسلام (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) والمشهور أن الإسرائيلي كان مسلما قيل إنه السامريّ والقبطي طباخ فرعون فكان القبطي يسخر الإسرائيلي ليحمل الحطب إلى المطبخ ، وقال سعيد بن جبير : عن ابن عباس لما بلغ موسى أشدّه لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل بظلم حتى امتنعوا كل الامتناع وكان بنو إسرائيل عزّوا لمكان موسى لكونه ربيب الملك مع أن مرضعته منهم لا يظنون أن سبب ذلك إلا الإرضاع (فَاسْتَغاثَهُ) أي : طلب منه (الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ) أن يغيثه (عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) فغضب موسى عليهالسلام واشتدّ غضبه وقال للفرعوني خل سبيله فقال : إنما أخذته ليحمل الحطب إلى مطبخ أبيك فنازعه فقال الفرعوني لقد هممت أن أحمله عليك وكان موسى عليهالسلام قد أوتي بسطة في الخلق وشدّة في القوّة والبطش (فَوَكَزَهُ مُوسى) أي : دفعه بجمع كفه ، والفرق بين الوكز واللكز : أنّ الأوّل : بجمع الكف والثاني : بأطراف الأصابع ، وقيل : بالعكس ، وقيل اللكز في الصدر والوكز في الظهر (فَقَضى) أي : فأوقع القضاء الذي هو القضاء على الحقيقة وهو الموت الذي لا ينجو منه مخلوق (عَلَيْهِ) فقتله وفرغ منه ، وكل شيء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه وخفي هذا على الناس لما هم فيه من الغفلة فلم يشعر به أحد فندم موسى عليهالسلام عليه ولم يكن قصده القتل فدفنه في الرمل.
(قالَ هذا) أي : قتله (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) أي : لأني لم أومر به على الخصوص ولم يكن من قصدي وإن كان المقتول كافرا حربيا ، ثم أخبر عن حال الشيطان ليحذر منه بقوله (إِنَّهُ عَدُوٌّ)