الجار في قوله تعالى : (مِنْ نَذِيرٍ) وزيادة الجار في قوله تعالى (مِنْ قَبْلِكَ) يدل على الزمن القريب وهو زمن الفترة بينه وبين عيسى عليهما الصلاة والسلام وهو خمسمائة وخمسون سنة ونحو هذا قوله تعالى : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) [يس : ٦] وقيل : ليس المراد زمن الفترة بل ما بينه وبين إسماعيل عليهماالسلام على أنّ دعوة موسى وعيسى كانت مختصة ببني إسرائيل وما حولهم (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي : يتعظون.
(وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ) أي : في وقت من الأوقات (مُصِيبَةٌ) أي : عظيمة (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي : من المعاصي التي قضينا بأنها مما لا يعفى عنها (فَيَقُولُوا رَبَّنا) أي : أيها المحسن إلينا (لَوْ لا) أي : هلا ولم لا (أَرْسَلْتَ إِلَيْنا) أي : على وجه التشريف لنا لنكون على علم بأنا ممن يعتني الملك الأعلى به (رَسُولاً) وأجاب التحضيض الذي شبهوه بالأمر ليكون كل منهما باعثا على الفعل بقوله تعالى : (فَنَتَّبِعَ) أي : فيتسبب عن إرسال رسولك أن نتبع (آياتِكَ وَنَكُونَ) أي : كونا هو في غاية الرسوخ (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي : المصدقين لك في كل ما أتى به عنك رسولك.
تنبيه : (لو لا) الأولى : امتناعية وجوابها محذوف تقديره كما قال الزجاج ما أرسلنا إليهم رسولا يعني أنّ الحامل على إرسال الرسل إزاحة عللهم بهذا القول فهو كقوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء : ١٦٥] والثانية : تحضيضية ونتبع جوابها كما مرّ فلذلك أضمر أن ، فإن قيل : كيف استقام هذا المعنى وقد جعلت العقوبة هي السبب في الإرسال لا القول لدخول حرف الامتناع عليها دونه؟.
أجيب : بأنّ القول هو المقصود بأن يكون سببا للإرسال ولكنّ العقوبة لما كانت هي السبب للقول وكان وجوده بوجودها جعلت العقوبة كأنها سبب للإرسال بواسطة القول فأدخلت عليها (لو لا) وجيء بالقول معطوفا عليها بالفاء المعطية معنى السببية ويؤول معناه إلى قولك ولو لا قولهم هذا إذا أصابتهم مصيبة لما أرسلنا ولكن اختيرت هذه الطريقة لنكتة وهي أنهم لو لم يعاقبوا مثلا على كفرهم وقد عاينوا ما ألجؤا به إلى العلم اليقيني ببطلان دينهم لم يقولوا لو لا أرسلت إلينا رسولا بل إنما يقولون إذا نالهم العقاب ، وإنما السبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير لا التأسف على ما فاتهم من الإيمان بخالقهم عزوجل وفي هذا من الشهادة القوية على استحكام كفرهم ورسوخه فيهم ما لا يخفي وهو كقوله تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨] ولما كان التقدير ولكنا أرسلناك بالحق لقطع حجتهم هذه بنى عليه.
(فَلَمَّا جاءَهُمُ) أي : أهل مكة (الْحَقُ) أي : الذي هو أعم من الكتاب والسنة وما يقاس عليهما وهو في نفسه جدير بأن يقبل لكونه في الذروة العليا من الثبات فكيف وهو (مِنْ عِنْدِنا) على ما لنا من العظمة وهو على لسانك وأنت أعظم الخلق (قالُوا) أي : أهل الدعوة من العرب وغيرهم تعنتا وكفرا به (لَوْ لا) أي : هلا ولم لا (أُوتِيَ) أي : هذا الآتي بما يزعم أنه الحق من الآيات (مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) من الآيات كاليد البيضاء والعصا وغيرهما من كون الكتاب أنزل عليه جملة واحدة قال الله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا) أي : العرب ومن بلغته الدعوة من بني إسرائيل ومن كان مثلهم في البشرية والعقل في زمن موسى (بِما أُوتِيَ مُوسى) عليهالسلام من قبل أي : من قبل مجيء الحق على لسان محمد صلىاللهعليهوسلم ولما كان كأنه قد قيل ما كان