ضدّان لا يمكن ترك أحدهما إلا بأخذ الآخر وقوله تعالى : (وَعَمِلَ صالِحاً) لأجل أن يكون مصدقا لدعواه باللسان (فَعَسى) إذا فعل ذلك (أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) عند الله وعسى تحقيق على عادة الكرام ، أو ترجّ من التائب بمعنى فليتوقع أن يفلح.
ولما كان كأنه قيل ما لأهل القسم الأوّل لا يتوخون النجاة من ضيق ذلك البلاء إلى رحب هذا الرجاء وكان الجواب ربك منعهم من ذلك ، وما له لم يقطع لهذا القسم بالفلاح كما قطع لأهل القسم الأوّل بالشقاء كان الجواب. (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) لا موجب عليه ولا مانع له (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) أي : أن يفعلوا يفعل لهم كل ما يختارونه.
تنبيه : الخيرة بمعنى التخير كالطيرة بمعنى التطير ، وظاهره نفي الاختيار عنهم رأسا ، قال البيضاوي والأمر كذلك عند التحقيق فإن اختيار العبيد مخلوق منوط بدواع لا اختيار لهم فيها ، وقال الرازي في اللوامع : وفيه دليل على أنّ العبد في اختياره غير مختار فلهذا أهل الرضا حطوا الرحال بين يدي ربهم وسلموا الأمور إليه بصفاء التفويض يعني فإن أمرهم أو نهاهم بادروا وإن أصابهم سهام المصائب العظام صابروا وإن أعزهم أعزوا أنفسهم وأكرموا وإن أذلهم رضوا وسلموا فلا يرضيهم إلا ما يرضيه ولا يريدون إلا ما يريده فيمضيه ، قال القائل (١) :
وقف الهوى لي حيث أنت فليس لي |
|
متأخر عنه ولا متقدّم |
أجد الملامة في هواك لذيذة |
|
حبا لذكرك فليلمني اللوّم |
وأهنتني فأهنت نفسي صاغرا |
|
ما من يهون عليك ممن يكرم |
وقيل : ما موصولة مفعول ليختار والراجع محذوف ، والمعنى ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة أي : الخير والصلاح (سُبْحانَ اللهِ) تنزيها له أن يزاحمه أحد أو ينازع اختياره (وَتَعالى) أي : علا علوا لا تبلغ العقول توجيه كنه مداه (عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي : عن إشراكهم أو مشاركة ما يشاركونه به.
ولما كانت القدرة لا تتم إلا بالعلم قال تعالى : (وَرَبُّكَ) أي : المحسن إليك المتولي أمر تربيتك (يَعْلَمُ ما تُكِنُ) أي : تخفي وتستر (صُدُورُهُمْ) من كونهم يؤمنون على تقدير أن تأتيهم آيات مثل آيات موسى عليهالسلام ، أو لا يؤمنون ومن كون ما أظهر من أظهر الإيمان بلسانه خالصا أو مشوبا ، ومن كونهم يخفون عداوة الرسول صلىاللهعليهوسلم (وَما يُعْلِنُونَ) أي : يظهرون من ذلك كل ذلك لديه سواء فلا يكون لهم مراد إلا يخلقه ، فإن قيل : هلا اكتفى بقوله تعالى : (ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) عن قوله : (وَما يُعْلِنُونَ) أجيب : بأنّ علم الخفي لا يستلزم علم الجليّ إما لبعد أو لغط أو اختلاط أصوات يمنع تمييز بعضه عن بعض أو غير ذلك.
ولما كان علمه تعالى بذلك إنما هو لكونه إلها واحدا فردا صمدا وكان غيره لا يعلم من علمه إلا ما علمه قال تعالى : (وَهُوَ اللهُ) أي : المستأثر بالإلهية الذي لا سميّ له الذي لا يحيط الواصفون بكنه عظمته ، ثم شرح معنى الاسم الأعظم بقوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وهذا تنبيه على كونه قادرا على كل الممكنات عالما بكل المعلومات منزها عن النقائص والآفات ، ثم علل ذلك بقوله تعالى : (لَهُ) أي : وحده (الْحَمْدُ) أي : الإحاطة بأوصاف الكمال (فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ)
__________________
(١) الأبيات لم أجدها في المصادر والمراجع التي بين يدي.