لأنه المولي للنعم كلها عاجلها وآجلها يحمده المؤمنون في الآخرة كما حمدوه في الدنيا ، فإن قيل : الحمد في الدنيا ظاهر فما الحمد في الآخرة؟ أجيب : بأنهم يحمدونه بقولهم (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) [فاطر : ٣٤] (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) [الزمر : ٧٤] (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس : ١٠] والتوحيد هناك على وجه اللذة لا الكلفة ، وفي الحديث : «يلهمون التسبيح والتقديس» (١)(وَلَهُ الْحُكْمُ) أي : القضاء النافذ في كل شيء وقال ابن عباس : حكم لأهل الطاعة بالمغفرة ولأهل المعصية بالشقاء (وَإِلَيْهِ) لا إلى غيره (تُرْجَعُونَ) أي : بأيسر أمر يوم النفخ في الصور لبعثرة ما في القبور ، بالبعث والنشور مع أنكم الآن راجعون في جميع أحكامكم إليه ، ومقصورون عليه إن شاء أمضاها وإن أراد ردّها ولواها ففي الآية غاية التقوية لقلوب المطيعين ونهاية الزجر والردع للمتمردين.
ثم بين سبحانه وتعالى بعض ما يجب أن يحمد عليه مما لا يقدر عليه سواه بقوله تعالى : (قُلْ) أي : يا أفضل الخلق لأهل مكة (أَرَأَيْتُمْ) أي : أخبروني (إِنْ جَعَلَ اللهُ) أي : الملك الأعلى (عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ) أي : الذي به اعتدال حرّ النهار (سَرْمَداً) أي : دائما (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) لا نهار معه (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) أي : العظيم الشأن الذي لا كفء له (يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ) أي : بنهار تطلبون فيه المعيشة (أَفَلا تَسْمَعُونَ) أي : ما يقال لكم سماع إصغاء وتدبر.
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ) أي : الذي له الأمر كله (عَلَيْكُمُ النَّهارَ) أي : الذي توازن حرارته برطوبة الليل فيتمّ بها صلاح النبات وغير ذلك من جميع المقدّرات (سَرْمَداً) أي : دائما (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) لا ليل فيه (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) أي : الجليل الذي ليس له مثل (يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ) أي : ينشأ منه ظلام (تَسْكُنُونَ فِيهِ) استراحة عن متاعب الأشغال ، فإن قيل هلا قيل بنهار تتصرفون فيه كما قيل بليل تسكنون فيه؟ أجيب : بأنه تعالى ذكر الضياء وهو ضوء الشمس لأنّ المنافع التي تتعلق به متكاثرة ليس التصرف في المعايش وحده والظلام ليس بتلك المنزلة ومن ثمّ قرن بالضياء (أَفَلا تَسْمَعُونَ) لأن السمع يدرك ما لا يدرك البصر من ذلك منافعه ووصف فوائده وقرن بالليل (أَفَلا تُبْصِرُونَ) لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ، قال البقاعي : فالآية من الاحتباك ذكر الضياء أولا دليلا على حذف الظلام ثانيا والليل والسكون ثانيا دليلا على حذف النهار والانتشار أوّلا.
ولما كان التقدير ومن رحمته جعل لكم السمع والأبصار لتتدبروا آياته وتبصروا في مصنوعاته عطف عليه.
(وَمِنْ رَحْمَتِهِ) أي : التي وسعت كل شيء لا من غيرها من خوف أو رجاء أو تعلق غرض من الأغراض (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) آيتين عظيمتين دبر فيهما وبهما جميع مصالحكم فجعل آية الليل (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) فلا تسعوا فيه لمعاشكم (وَ) جعل آية النهار مبصرة (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) بأن تسعوا في معاشكم بجهدكم ، قال البقاعي : فالآية من الاحتباك ذكر أوّلا السكون دليلا على حذف السعي في المعاش ثانيا وذكر الابتغاء من فضله ثانيا دليلا على حذف عدم السعي في المعاش أوّلا
__________________
(١) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٣٢٢ ، ٣٢٣ ، ٣٢٤ ، وابن ماجه في الزهد باب ٣٧ ، وأحمد في المسند ٣ / ١١٦.