بأداة البعد بقوله : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) فينكر كل منكم محاسن أخيه ويتبرأ منه وتلعن الأتباع القادة وتلعن القادة الأتباع كما قال تعالى : (وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) وتنكرون كلكم عبادة الأوثان تارة إذا تحققتم أنها ضرر لا نفع لها وتقرّون بها أخرى طالبين نصرتها راجين منفعتها وتنكر الأوثان عبادتكم وتجحد منفعتكم (وَمَأْواكُمُ) أي : جميعا أنتم والأوثان (النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يحمونكم منها.
ثم بين تعالى أوّل من آمن بإبراهيم بقوله تعالى : (فَآمَنَ لَهُ) أي : لأجل دعائه له مع ما رأى من الآيات (لُوطٌ) وكان ابن أخيه هاران وهو أوّل من صدّقه من الرجال (وَقالَ) أي : إبراهيم عليهالسلام لما هو جدير بالإنكار من الهجرة لصعوبتها (إِنِّي مُهاجِرٌ) أي : خارج من أرضي وعشيرتي على وجه يهمّ فمنتقل ومنحاز (إِلى رَبِّي) أي : إلى أرض ليس فيها أنيس ولا عشير ولا من ترجى نصرته ولا من تنفع مودّته فهاجر من كوثى من سواد الكوفة إلى حران ثم منها إلى الأرض المقدّسة فكانت هجرتان ، ومن ثم قالوا لكل نبيّ هجرة ولإبراهيم عليهالسلام هجرتان ، وهو أوّل من هاجر في الله وكان معه في هجرته لوط وامرأته سارة ، قال مقاتل وكان إذ ذاك ابن خمس وسبعين سنة.
فإن قيل : لم لم يقل : إني مهاجر إلى حيث أمرني ربي مع أنّ المهاجرة توهم الجهة؟ أجيب : بأنّ هذا القول ليس في الإخلاص كقوله إلى ربي لأنّ الملك إذا صدر منه أمر برواح الأخيار ثم إن واحدا منهم سار إلى ذلك الموضع لغرض نفسه فقد هاجر إلى حيث أمره الملك ولكن ليس مخلصا لوجهه فلذا قال مهاجر إلى ربي يعني يوجهني إلى الجهة المأمور بالهجرة إليها ليس طلبا للجهة وإنما هو طلب لله ، ثم علل ذلك بما يسليه عن فراق أرضه وأهل ودّه من ذوي رحمه وأنسابه بقوله : (إِنَّهُ هُوَ) أي : وحده (الْعَزِيزُ) أي : فهو جدير بإعزاز من انقطع إليه (الْحَكِيمُ) فهو إذا أعز أحدا منعته حكمته من التعرّض له بالإذلال بفعل أو مقال.
ولما كان التقدير فأعززناه بما ظنّ بنا عطف عليه قوله : (وَوَهَبْنا لَهُ) أي : بعظيم قدرتنا شكرا على هجرته (إِسْحاقَ) من زوجته سارة رضي الله تعالى عنها التي جمعت إلى العقم في شبابها اليأس في كبرها (وَيَعْقُوبَ) من ولده إسحاق عليهماالسلام فإن قيل لم لم يذكر إسماعيل عليهالسلام وذكر إسحاق وعقبه؟ أجيب : بأن هذه السورة لما كان السياق فيها للامتحان وكان إبراهيم عليهالسلام قد ابتلي في إسماعيل بفراقه مع أمّه ووضعهما في مضيعة من الأرض لا أنيس فيها لم يذكره تصريحا في سياق الامتنان وأفرد إسحاق لأنه لم يبتل فيه بشيء من ذلك ولأن الامتنان به لكون أمّه عجوزا عقيما أكبر وأعظم لأنها أعجب ، وذكر إسماعيل تلويحا في قوله تعالى (وَجَعَلْنا) أي : بعزتنا وحكمتنا (فِي ذُرِّيَّتِهِ) من ولد إسحاق وإسماعيل عليهماالسلام (النُّبُوَّةَ) فلم يكن بعده نبيّ أجنبي عنه بل جميع الأنبياء من ذرّية إسحاق إلا نبينا محمدا صلىاللهعليهوسلم فإنه من ذرّية إسماعيل قاله بعض العلماء ، فإن قيل إن الله تعالى جعل في ذرّيته النبوة أجابة لدعائه والوالد يسوّي بين أولاده فكيف صارت النبوّة في ولد إسحاق عليهالسلام أكثر؟.
أجيب : بأنّ الله تعالى قسم الزمان من وقت إبراهيم إلى يوم القيامة قسمين والناس أجمعين فالقسم الأوّل من الزمان : بعث الله تعالى فيه أنبياء فيهم فضائل جمة وجاؤوا تترى واحدا بعد واحد مجتمعين في عصر واحد كلهم من ذرّية إسحاق عليهالسلام ، ثم في القسم الثاني : من الزمان : أخرج من ذرّية ولده إسماعيل عليهالسلام واحدا اجتمع فيه ما كان فيهم وأرسله إلى كافة الخلق وهو