محمد صلىاللهعليهوسلم وجعله خاتم النبيين وقد دام الخلق على دين أولاد إسحاق أكثر من أربعة آلاف سنة ولا يبعد أن تبقى الخلق على دين ذرية إسماعيل ذلك المقدار (وَالْكِتابَ) فلم ينزل كتاب إلا على أولاده ، فإن قيل : لم أفرد الكتاب مع أنها أربعة التوراة والإنجيل والزبور والفرقان؟ أجيب : بأنه أفرده ليدلّ مع تناوله جنسية الكتب الأربعة أنه لا شيء يستحق أن يكتب إلا ما أنزل فيها أو كان راجعا إليها ولو جمع لم يفد هذا المعنى (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ) على هجرته (فِي الدُّنْيا) بما خصصناه به مما لا يقدر عليه غيرنا من سعة الرزق ورغد العيش وكثرة الولد والحزم في الشيخوخة وكثرة النسل ، والثناء الحسن والمحبة من جميع الخلق وغير ذلك.
قال الرازي : وفي الآية لطيفة وهي أنّ الله تعالى بدل جميع أحوال إبراهيم عليهالسلام في الدنيا بأضدادها لما أراد القوم تعذيبه بالنار كان وحيدا فريدا فبدل الله تعالى وحدته بالكثرة حتى ملأ الدنيا من ذريته.
ولما كان أوّلا بعث إلى قومه وأقاربه الأقربين ضالين مضلين من جملتهم آزر بدل الله تعالى أقاربه بأقارب مهتدين هادين وهم ذرّيته الذين جعلت فيهم النبوّة والكتاب ، وكان أولا لا جاه له ولا مال وهما غاية المذلة الدنيوية آتاه الله تعالى من المال والجاه حتى كان له من المواشي ما علم الله تعالى عدده حتى قيل إنه كان له اثنا عشر ألف كلب حارس بأطواق الذهب وأما الجاه فصار بحيث تقرن الصلاة عليه بالصلاة على سائر الأنبياء إلى يوم القيامة فصار معروفا بشيخ المرسلين بعد أن كان خاملا حتى قال قائلهم سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم وهذا الكلام لا يقال إلا للمجهول عند الناس.
(وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ) أي : التي هي الدار ومحلّ الاستقرار (لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي : الذين خصصناهم بالسعادة وجعلنا لهم الحسنى وزيادة ، قال ابن عباس : مثل آدم ونوح.
وفي إعراب قوله تعالى : (وَلُوطاً) ما تقدّم في إعراب نصب إبراهيم (إِذْ) أي : حين (قالَ لِقَوْمِهِ) أهل سدوم الذين سكن فيهم وصاهرهم وانقطع إليهم فصاروا قومه حين فارق عمه الخليل إبراهيم عليهماالسلام منكرا ما رأى من حالهم وقبيح فعالهم مؤكدا له (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) وهي أدبار الرجال المجاوزة للحدّ في القبح فكأنها لذلك لا فاحشة غيرها ثم علل كونها فاحشة استئنافا بقوله : (ما سَبَقَكُمْ بِها) وهي حالة مبينة لعظيم جراءتهم على المنكر أي : غير مسبوقين به وأغرق في النفي بقوله : (مِنْ أَحَدٍ) وزاد بقوله : (مِنَ الْعالَمِينَ) أي : كلهم من الأنس والجنّ أي : فضلا عن خصوص الناس.
ثم كرّر الإنكار تأكيدا التجاوز قبحها الذي ينكرونه بقوله : (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) إتيان الشهوة وعطف عليها ما ضموه إليها من المناكر بقوله (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) أي : طريق المارّة بالقتل وأخذ المال بفعلكم الفاحشة بمن يمرّ بكم فترك الناس الممرّ بكم أو تقطعون سبيل النساء بالإعراض عن الحرث وإتيان ما ليس بحرث (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) أي : تفعلون في متحدّثكم فعل الفاحشة بعضكم ببعض وهو مما تنكره الشرائع والمروءآت والعقول وأنتم لا تتحاشون عن شيء منه في المجتمع الذي يتحاشى فيه الإنسان من فعل خلاف الأولى من غير أن يستحي بعضكم من بعض ، قال ابن عباس : المنكر هو الحذف بالحصا والرمي بالبنادق والفرقعة ومضع العلك والسواك بين الناس وحلّ الأزار والسباب والتضارط في مجالسهم والفحش