الناس لأنهم جاؤوا من عند إبراهيم عليهالسلام إليه على صورة البشر ، روي أنهم كانوا يجلسون مجالسهم وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصا فإذا مرّ بهم عابر سبيل حذفوه فأيهم أصابه كان أولى به ، قيل : إنه كان يأخذه معه وينكحه ويغرّمه ثلاثة دراهم ولهم قاض بذلك ، ولهذا يقال : أجور من قاضي سدوم.
(وَضاقَ) أي : بأعمال الحيلة في الدفع عنهم (بِهِمْ ذَرْعاً) أي : ذرعه أي : طاقته والأصل في ذلك أنّ من طالت ذراعه نال ما لا يناله قصيرها يضرب مثلا في العجز والقدرة.
ولما رأوه على هذه الحالة خففوا عليه (قالُوا) له (لا تَخَفْ) إنا رسل ربك لإهلاكهم (وَلا تَحْزَنْ) أي : على تمكنهم منا أو على أحد ممن يهلك فإنه ليس في أحد منهم خير يؤسف عليه بسببه فإنهم وصلوا في الخبث إلى حدّ لا مطمع في الرجوع عنه مع ملازمته لدعائهم من غير ملل ولا ضجر ، ثم عللوا ذلك بقولهم مبالغين في التأكيد : (إِنَّا مُنَجُّوكَ) أي : مبالغون في إنجائك وقولهم : (وَأَهْلَكَ) منصوب على محل الكاف (إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) فإن قيل : القوم عذبوا بسبب ما صدر منهم من الفاحشة وامرأته لم يصدر منها ذلك فكيف كانت من الغابرين معهم؟.
أجيب : بأنّ الدال على الشرّ كفاعله كما أنّ الدال على الخير كفاعله وهي كانت تدل القوم على ضيوف لوط حتى كانوا يقصدونهم فبالدلالة صارت كأحدهم ، فإن قيل ما مناسبة قولهم إنا منجوك لقولهم لا تخف ولا تحزن فإنّ خوفه ما كان على نفسه؟ أجيب : بأنّ لوطا لما ضاق عليهم وحزن لأجلهم قالوا له : لا تخف أي : علينا ولا تحزن لأجلنا فإنا ملائكة ، ثم قالوا له : يا لوط خفت علينا وحزنت لأجلنا ففي مقابلة خوفك وقت الخوف نزيل خوفك وننجيك ، وفي مقابلة حزنك نزيل حزنك ولا نتركك تفجع في أهلك فقالوا إنا منجوك وأهلك ، وقرأ ابن كثير وشعبة وحمزة والكسائي بسكون النون وتخفيف الجيم والباقون بفتح النون وتشديد الجيم.
ثم إنهم بعد بشارة لوط بالتنجية قالوا له : (إِنَّا مُنْزِلُونَ) أي : لا محالة (عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً) أي : عذابا (مِنَ السَّماءِ) فهو عظيم وقعه ، شديد صدعه ، واختلف في ذلك الرجز فقيل : حجارة وقيل : نار ، وقيل : خسف ، وعلى هذا يكون المراد أنّ الأمر بالخسف والقضاء به من السماء ، وقرأ ابن عامر بفتح النون وتشديد الزاي ، والباقون بسكون النون وتخفيف الزاي.
تنبيه : كلام الملائكة مع لوط جرى على نمط كلامهم مع إبراهيم عليهالسلام فقدموا البشارة على إنزال العذاب ثم قالوا إنا منجوك ثم قالوا إنا منزلون ولم يعللوا التنجية فلم يقولوا إنا منجوك لأنك نبيّ أو عابد وعللوا الإهلاك فقالوا : (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي : يخرجون في كل وقت من دائرة العقل والحياء كقولهم هناك إنّ أهلها كانوا ظالمين.
ولما كان التقدير ففعلت رسلنا ما وعدوه به من إنجائه وإهلاك جميع قراهم فتركناها كأن لم يسكنها أحد عطف عليه قوله تعالى : (وَلَقَدْ تَرَكْنا) أي : بما لنا من العظمة (مِنْها) أي : من تلك القرى (آيَةً) أي : علامة على قدرتنا على كل ما نريد (بَيِّنَةً) أي : ظاهرة ، قال ابن عباس : منازلهم الخربة ، وقال قتادة هي الحجارة التي أهلكوا بها أبقاها الله تعالى حتى أدركها أوائل هذه الأمة ، وقال مجاهد هو ظهور الماء الأسود على وجه الأرض.
فائدة : اتفق القراء على إدغام الدال في التاء.