بحيث تدل قطعا على صدق الآتي بها (مِنْ رَبِّهِ) أي : الذي يدعي إحسانه إليه كما أنزل على الأنبياء قبله كناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى عليهمالسلام ليستدل بها على صدق مقاله وصحة ما يدعيه من حاله ، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص آيات بالجمع لأنّ بعده (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ) بالجمع إجماعا ، والباقون آية بالإفراد لأنّ غالب ما جاء في القرآن كذلك.
ولما كان هذا إنكارا للشمس بعد شروقها ومكابرة فيما تحدى به من المعجزات بعد حقوقها أشار إليه بقوله تعالى : (قُلْ) أي : لهم إرخاء للعنان حتى كأنك ما أتيتهم بشيء (إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) أي : الذي له الأمر كله ينزل أيتها شاء فلا يقدر على إنزال شيء منها غيره فإنما الإله هو لا سواه ولو شاء أن ينزل ما يقترحونه لفعل (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي : فليس من شأني إلا الإنذار وإبانته بما أعطيته من الآيات وليس لي أن أقترح عليه الآيات فأقول أنزل علي آية كذا دون آية كذا على أنّ المقصود من الآيات الدلالة على الصدق وهي كلها في حكم آية واحدة في ذلك ، ولم يذكر البشارة لأنه ليس من أسلوبها.
وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ) جواب لقولهم لو لا أنزل عليه آيات من ربه أي : إن كانوا طائعين للحق غير متيقنين آية مغنية عن كل آية (أَنَّا أَنْزَلْنا) أي : بما لنا من العظمة (عَلَيْكَ الْكِتابَ) أي : القرآن الجامع لسعادة الدارين بحيث صار خلقا لك (يُتْلى عَلَيْهِمْ) أي : تتجدّد متابعة قراءته عليهم شيئا بعد شيء في كل مكان وفي كل زمان من كل مقال مصدقا لما في الكتب القديمة من نعتك وغيره من الآيات الدالة على صدقك فأعظم به آية باقية لا تزول ولا تضمحل إذ كل آية سواه منقضية ماضية وتكون في مكان دون مكان ، فالقرآن أتم من كل معجزة لوجوه :
الأوّل : أنّ تلك المعجزات وجدت وما دامت فإن قلب العصا ثعبان وإحياء الميت لم يبق لنا منه أثر فلو أنكره واحد لم يمكن إثباتها معه بدون الكتاب ، وأما القرآن فهو باق لو أنكره واحد فيقال أئت بآية من مثله.
الثاني : أنّ قلب العصا ثعبانا كان في آن واحد ولم يره من لم يكن في ذلك المكان ، وأما القرآن فقد وصل إلى المشرق والمغرب وسمعه كل أحد ، وههنا لطيفة : وهي أنّ آيات نبينا صلىاللهعليهوسلم كانت أشياء لا تختص بمكان دون مكان لأنّ من جملتها انشقاق القمر وهو يعم الأرض لأنّ الخسوف إذا وقع عمّ وذلك لأنّ نبوّته كانت عامّة لا تختص بقطر دون قطر ، وغاض بحر ساوة في قطر وسقط إيوان كسرى في قطر ، وانهدمت الكنيسة بالروم في قطر آخر إعلاما بأنه يكون أمرا عامّا ، الثالث : أنّ غير هذه المعجزة يقول الكافر المعاند هذا سحر وعمل يد والقرآن لا يمكن هذا القول فيه ، وقال أبو العباس المرسي : خشع بعض الصحابة من سماع بعض اليهود يقرأ التوراة فعوتبوا إذ تخشعوا من غير القرآن وهم إنما تخشعوا من التوراة وهي كلام الله تعالى فما ظنك بمن أعرض عن كتاب الله وتخشع بالملاهي والغناء.
ولما كان هذا القرآن أعظم من كل آية يقترحونها قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : إنزال الكتاب على هذا الوجه البعيد المنال البديع المثال (لَرَحْمَةً) أي : نعمة عظيمة في كل لحظة وتطهيرا لخبث النفوس في كل لمحة (وَذِكْرى) أي : عظيمة مستمرّا تذكرها.
ولما عمّ بالقول خص من حيث النفع فقال (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لأنهم المنتفعون بذلك.
ولما كان من المعلوم أنهم يقولون : نحن لا نصدق أنّ هذا الكتاب من عند الله فضلا عن أن