نكتفي به قال تعالى : (قُلْ) أي : جوابا لما قد يقولونه من نحو هذا (كَفى بِاللهِ) أي : الحائز لجميع العظمة وسائر الكمالات (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) أني قد بلغتكم ما أرسلت به إليكم ونصحتكم وأنذرتكم وأنهم قابلوني بالجحد والتكذيب وقد صدقني بالمعجزات ، وروي أنّ كعب بن الأشرف وغيره قالوا يا محمد من يشهد لك أنك رسول الله فنزلت ، ثم وصف الشهيد وعلل كفايته بقوله : (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ) أي : كلها (وَالْأَرْضِ) أي : كذلك لا يخفى عليه شيء من ذلك فهو عليم بما تنسبونه إليه من التقوّل عليه وبما أنسبه أنا إليه من هذا القرآن الذي يشهد لي به عجزكم عنه فهو شاهدي ، والله في الحقيقة هو الشاهد لي فيه بالثناء عليّ والشهادة لي بالصدق لأنه قد ثبت بالعجز عنه أنه كلامه.
ولما بين تعالى الطريقين في إرشاد الفريقين المشركين وأهل الكتاب عاد إلى الكامل الشامل لهما والإنكار العامّ فقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ) أي : وهو ما يعبد من دون الله (وَكَفَرُوا بِاللهِ) أي : الذي يجب الإيمان به والشكر له لأنّ له الكمال كله وكل ما سواه هالك ليس له من ذاته إلا العدم (أُولئِكَ) أي : البعداء البغضاء (هُمُ الْخاسِرُونَ) أي : العريقون في الخسارة فإنهم خسروا أنفسهم أبد الآبدين ، فإن قيل : قوله (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) يقتضي الحصر في من آمن بالباطل وكفر بالله فمن يأتي بأحدهما دون الآخر لا يكون كذلك؟ أجيب : بأنه يستحيل أن يكون الآتي بأحدهما لا يكون آتيا بالآخر لأنّ المؤمن بما سوى الله تعالى مشرك لأنه جعل غير الله مثله وغير الله عاجز ممكن باطل فيكون الله تعالى كذلك ومن كفر بالله تعالى وأنكره فيكون قائلا بأنّ العالم واجب الوجود إله فيكون قائلا بأنّ غير الله إله فيكون إثباتا لغير الله وإيمانا به.
فإن قيل : إذا كان الإيمان بما سواه كفرا به فيكون كل من آمن بالباطل فقد كفر بالله فهل لهذا العطف فائدة غير التأكيد الذي في قول القائل قم ولا تقعد واقرب مني ولا تبعد؟ أجيب : بأنّ فيه فائدة غيرها وهو أنه ذكر الثاني لبيان قبح الأوّل كقول القائل : أتقول بالباطل وتترك الحق لبيان أنّ القول بالباطل قبيح.
ولما أنذرهم صلىاللهعليهوسلم وأوعد بالعذاب إن لم يؤمنوا أخبر الله تعالى عنهم بقوله تعالى :
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥) يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ