(وَإِذا قِيلَ) أي : من أي : قائل كان (لَهُمُ) أي : المجادلين هذا الجدال (اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) أي : الذي خلقكم وخلق آباءكم الأوّلين (قالُوا) جحودا لا نفعل (بَلْ نَتَّبِعُ) وإن أتيتنا بكل دليل (ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) لأنهم أثبت منا عقولا وأقوم قيلا وأهدى سبيلا ، فهذه المجادلة في غاية القبح فإن النبيّ صلىاللهعليهوسلم يدعوهم إلى كلام الله وهم يأخذون بكلام آبائهم ، وبين كلام الله تعالى وبين كلام العلماء بون عظيم فكيف ما بين كلام الله تعالى وكلام الجهال (أَوَلَوْ) أي : أيتبعونهم ولو (كانَ الشَّيْطانُ) أي : البعيد من الرحمه ، المحترق باللعنة (يَدْعُوهُمْ) إلى الضلال فيوبقهم فيما يسخط الرحمن فيؤديهم لك (إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) وجواب لو محذوف مثل لا تتبعوه ، والاستفهام للإنكار والتعجب ، والمعنى أن الله تعالى يدعوهم إلى الثواب والشيطان يدعوهم إلى العذاب وهم مع هذا يتبعون الشيطان.
ولما بين تعالى حال المشرك والمجادل في الله بين تعالى حال المسلم المستسلم لأمر الله تعالى بقوله تعالى : (وَمَنْ يُسْلِمْ) أي : في الحال والاستقبال (وَجْهَهُ) أي : قصده وتوجهه وذاته كلها (إِلَى اللهِ) أي : الذي له صفات الكمال بأن فوض أمره إليه فلم يبق لنفسه أمر أصلا فهو لا يتحرك إلا بأمر من أوامره سبحانه (وَهُوَ) أي : والحال أنه (مُحْسِنٌ) أي : مخلص بباطنه كما أخلص بظاهره فهو دائما في حال الشهود (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ) أي : أوجد الإمساك بغاية ما يقدر عليه من القوّة في تأدية الأمور (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) أي : اعتصم بالعهد الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه ؛ لأنّ أوثق العرى جانب الله تعالى فإن كل ما عداه هالك منقطع وهو باق لا انقطاع له ، وهذا من باب التمثيل مثل حال المتوكل بحال من أراد أن يتدلى من شاهق جبل فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه ، فإن قيل كيف قال ههنا (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) فعداه بإلى ، وقال في البقرة (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) [البقرة : ١١٢] فعداه باللام؟ أجيب : بأن أسلم يتعدّى تارة باللام ، وتارة بإلى ، كما يتعدّى أرسل تارة باللام وتارة بإلى قال تعالى (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) [النساء ، ٧٩] وقال تعالى (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً) [المزمل ، ١٥] (وَإِلَى اللهِ) أي : الملك الأعلى (عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي : مصير جميع الأشياء إليه ، كما أنّ منه باديتها ، وإنما خص العاقبة لأنهم مقرون بالبادية.
ولما بين تعالى حال المسلم رجع إلى بيان حال الكافر فقال تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ) أي : ستر ما أداه إليه عقله من أن الله تعالى لا شريك له وأن لا قدرة أصلا لأحد سواه ولم يسلم وجهه إليه (فَلا يَحْزُنْكَ) أي : يهمك ويوجعك (كُفْرُهُ) كائنا من كان ، فإنه لم يفتك شيء فيه ولا معجز لنا ليحزنك ولا تبعة عليك بسببه في الدنيا وفي الآخرة ، وأفرد الضمير في كفره اعتبارا بلفظ من لإرادة التنصيص على كل فرد ، وفي التعبير هنا بالماضي وفي الأوّل بالمضارع بشارة بدخول كثير في هذا الدين وأنهم لا يرتدون بعد إسلامهم ، وترغيب في الإسلام لكل من كان خارجا عنه فالآية من الاحتباك ، ذكر الحزن ثانيا دليلا على حذف ضدّه أوّلا ، وذكر الاستمساك أوّلا دليلا على حذف ضدّه ثانيا (إِلَيْنا) أي : في الدارين (مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ) أي : بسبب إحاطتنا بأمرهم وعقب رجوعهم (بِما عَمِلُوا) أي : ونجازيهم عليه إن أردنا (إِنَّ اللهَ) أي : الذي لا كفء له (عَلِيمٌ) أي : محيط العلم بما له من الإحاطة بأوصاف الكمال (بِذاتِ الصُّدُورِ) أي : لا يخفى عليه سرّهم وعلانيتهم فينبئهم بما أسرّت صدورهم.