فكيف يجتمع هذا علم قليل وخير كثير؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية» (١) ، وقال قتادة إنّ المشركين قالوا : إن القرآن وما يأتي به محمد يوشك أن ينفد فينقطع فنزلت ، فإن قيل كان مقتضى الكلام أن يقال : ولو أنّ الشجر أقلام والبحر مداد؟ أجيب : بأنه أغنى عن ذكر المداد قوله تعالى يمدّه لأنه من مدّ الدواة وأمدّها جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة وجعل الأبحر السبعة مملوأة مدادا فهي تصب فيه مدادها أبدا صبا لا ينقطع ، والمعنى : ولو أن أشجار الأرض أقلام ، والبحر ممدود بسبعة أبحر وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله ما نفدت كلماته ونفدت الأقلام والمداد كقوله تعالى (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) [الكهف : ١٠٩] لأنّ المحصور لا يفي بما ليس بمحصور ، فيا لها من عظمة لا تتناهى ، ومن كبرياء لا يجارى ولا يضاهى.
فإن قيل لم قيل من شجرة على التوحيد دون اسم الجنس؟ أجيب : بأنه أريد تفصيل الشجر وتقصيها شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا وقد بريت أقلاما ، فإن قيل الكلمات جمع قلة والموضع موضع التكثير لا التقليل فهلا قيل كلم الله؟ أجيب : بأنّ معناه أنّ كلماته لا تفي بها البحار فكيف بكلمة ، وقرأ أبو عمرو : والبحر بنصب الراء وذلك من وجهين : أحدهما : العطف على اسم أن ، أي : ولو أنّ البحر ، ويمدّه الخبر ، والثاني : النصب بفعل مضمر يفسره يمدّه والواو حينئذ للحال والجملة حالية ، ولم يحتج إلى ضمير رابط بين الحال وصاحبها للاستغناء عنه بالواو ، والتقدير : ولو أنّ الذي في الأرض حال كون البحر ممدودا بكذا ، وقرأ الباقون برفع الراء وذلك من وجهين : أيضا أحدهما : العطف على أن وما في حيزها ، والثاني : أنه مبتدأ ، ويمدّه الخبر ، والجملة حالية والرابط الواو.
تنبيه : قوله تعالى سبعة ، ليس لانحصارها في سبعة وإنما الإشارة إلى المدد والكثرة ولو بألف بحر ، وإنما خصصت السبعة بالذكر من بين الأعداد لأنها عدد كثير يحصر المعدودات في العادة ، ويدل على ذلك وجهان : الأوّل : أن المعلوم عند كل أحد لحاجته إليه هو الزمان والمكان فالزمان منحصر في سبعة أيام والمكان منحصر في سبعة أقاليم ، ولأنّ الكواكب السيارة سبعة والمنجمون ينسبون إليها أمورا فصارت السبعة كالعدد الحاصر للكثرات الواقعة في العادة فاستعملت في كل كثير.
ومنه قوله صلىاللهعليهوسلم : «المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء» (٢) الثاني : أن في السبعة معنى يخصها ولذلك كانت السموات سبعا والأرضون سبعا وأبواب جهنم سبعا وأبواب الجنة ثمانية ، لأنها الحسنى وزيادة ، فالزيادة هي الثامن ؛ لأن العرب عند الثامن يزيدون واو تقول القراء لها واو الثمانية وليس ذلك إلا للاستئناف لأنّ العدد تم بالسبعة ، ثم بين نتيجة ذلك بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ) أي : المحيط بكل شيء قدرة وعلما (عَزِيزٌ) أي : كامل القدرة لا نهاية لمقدوراته (حَكِيمٌ) أي : كامل العلم لا نهاية لمعلوماته.
__________________
(١) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٤ / ٢٠٠ ، وابن كثير في تفسيره ٥ / ١١٣.
(٢) أخرجه البخاري في الأطعمة حديث ٥٣٩٦ ، ومسلم في الأشربة حديث ٢٠٦٢ ، والترمذي في الأطعمة حديث ١٨١٩.