تنبيه : قد علم مما تقرّر أنّ الآية من الاحتباك ذكر الأقلام دليلا على حذف مدادها وذكر السبعة في مبالغة الأبحر دليلا على حذفها في الأشجار.
ولما ختم تعالى بهاتين الصفتين بعد إثبات القدرة على الإبداع من غير انتهاء ذكر بعض آثارها في البعث بقوله تعالى : (ما خَلْقُكُمْ) أي : كلكم في عزته وحكمته إلا كخلق نفس واحدة ، وأعاد النافي نصا على كل واحد من الخلق والبعث على حدته بقوله تعالى : (وَلا بَعْثُكُمْ) أي : كلكم (إِلَّا كَنَفْسٍ) أي : كبعث نفس ، وبين الأفراد تحقيقا للمراد تأكيدا للسهولة بقوله تعالى : (واحِدَةٍ) فإن كلماته مع كونها غير نافذة نافذة وقدرته مع كونها باقية بالغة فنسبة القليل والكثير إلى قدرته على حدّ سواء ؛ لأنه لا يشغله شأن ، عن شأن ، ثم دل على ذلك بقوله تعالى : مؤكدا (إِنَّ اللهَ) أي : الملك الأعلى (سَمِيعٌ) أي : بالغ السمع يسمع كل مسموع (بَصِيرٌ) أي : بليغ البصر يبصر كل مبصر لا يشغله شيء عن شيء.
ولما قرّر تعالى هذه الآية الخارقة دل عليها بأمر محسوس يشاهد كل يوم مرّتين بقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ) وهو محتمل وجهين : أحدهما : أن يكون الخطاب مع النبيّ صلىاللهعليهوسلم الأكثر وكأنه تعالى ترك الخطاب مع غيره ؛ لأن من هو غيره من الكفار لا فائدة في الخطاب معهم ومن هو غيره من المؤمنين فهم تبع له ، والوجه الثاني : المراد منه الوعظ والواعظ يخاطب ولا يعين أحدا فيقول لجمع عظيم : يا مسكين إلى الله مصيرك فمن نصيرك ولماذا تقصيرك (أَنَّ اللهَ) أي : بجلاله وعز كماله (يُولِجُ) أي : يدخل إدخالا لا مرية فيه (اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) فيغيب فيه بحيث لا يرى شيء منه فإذا النهار قد عمّ الأرض كلها أسرع من اللمح (وَيُولِجُ النَّهارَ) أي : يدخله كذلك (فِي اللَّيْلِ) فيخفى حتى لا يبقى له أثر فإذا الليل قد طبق الآفاق مشارقها ومغاربها في مثل الطرف فيميز سبحانه كلا منهما من الآخر بعد اضمحلاله فكذلك الخلق والبعث في قدرته بعزته وحكمته لبلوغ سمعه ونفوذ بصره (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ) آية للنهار يدخل الليل فيه (وَالْقَمَرَ) أي : آية لليل كذلك ثم استأنف ما سخرا فيه بقوله تعالى : (كُلٌ) أي : منهما (يَجْرِي) أي : في فلكه سائرا متماديا وبالغا ومنتهيا (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) لا يتعداه في منازل معروفة في جميع الفلك لا يزيد ولا ينقص هذا في الشهر مرّة وتلك في السنة مرّة ، لا يقدر واحد منهما أن يتعدّى طوره ولا أن ينقض دوره ولا أن يغير سيره.
تنبيه : قال تعالى يولج بصيغة المستقبل ، وقال في الشمس والقمر وسخر بصيغة الماضي لأن إيلاج الليل في النهار أمر يتجدّد كل يوم وتسخير الشمس والقمر أمر مستمرّ كما قال تعالى (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) [يس : ٣٩] وقال ههنا إلى أجل ، وفي الزمر لأجل ؛ لأن المعنيين لائقان بالحرفين فلا عليك في أيهما وقع. قال الأكثرون : هذا خطاب للنبي صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين ، وقيل : عامّ.
ولما كان الليل والنهار محل الأفعال بين أنّ ما يقع في هذين الزمانين اللذين هما بتصرف الله لا يخفى عليه بقوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ) أي : بما له من صفات الكمال (بِما تَعْمَلُونَ) أي : في كل وقت على سبيل التجدّد (خَبِيرٌ) أي : لا يخفى عليه شيء منه ؛ لأنه الخالق له كله دقه وجله.
ولما ثبت بهذه الأوصاف الحسنى والأفعال العليا أنه لا موجد بالحقيقة إلا الله تعالى : قال تعالى (ذلِكَ) أي : المذكور (بِأَنَ) أي : بسبب أن (اللهَ) أي : الذي لا عظيم سواه (هُوَ) وحده (الْحَقُ) أي : بسبب أنه الثابت في ذاته الواجب من جميع جهاته المستحق للعبادة (وَأَنَّ ما