الإنسان ، فإذا بلغ ثغرة نحره قبضه ملك الموت ، وعن معاذ بن جبل أن لملك الموت حربة تبلغ ما بين المشرق والمغرب وهو يتصفح وجوه الناس فما من أهل بيت إلا وملك الموت يتصفحهم في كل يوم مرتين ، فإذا رأى إنسانا قد انقضى أجله ضرب رأسه بتلك الحربة وقال : الآن يزار بك عسكر الموت ، فيصير ملقى لا روح في شيء منه وهو على حاله كاملا لا نقص في شيء منه يدعى الخلل بسببه.
فإذا كان هذا فعل عبد من عبيده تعالى صرّفه في ذلك فقام به كما ترونه مع أن ممازجة الروح للبدن أشد من ممازجة تراب البدن لبقية التراب ؛ لأنه ربما يستدل بعض الحذق على بعض ذلك بنوع دليل من شم ونحوه ، فكيف يستبعد شيء من الأشياء على رب العالمين ومدبر الخلائق أجمعين. نسأل الله تعالى أن يقبضنا على التوحيد ، وأن يستعملنا في طاعته ما أحيانا ويفعل ذلك بأهلنا وإحبائنا.
ولما قام هذا البرهان القطعي على قدرته التامة علم أن التقدير : ثم يعيدكم خلقا جديدا كما كنتم أول مرة فحذفه كما هو عادة القرآن في حذف كل ما دل عليه السياق ولم يدع داع إلى ذكره ، وعطف عليه قوله تعالى (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ) أي : الذي ابتدأ خلقكم وتربيتكم وأحسن إليكم غاية الإحسان (تُرْجَعُونَ) أي : تصيرون إليه أحياء فيجزيكم بأعمالكم.
ولما تقرر دليل البعث بما لا خفاء فيه ولا لبس شرع في بعض أحواله بقوله تعالى :
(وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠))
(وَلَوْ تَرى) أي : تبصر (إِذِ الْمُجْرِمُونَ) أي : الكافرون (ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) أي : مطأطؤها خوفا وخجلا وحزنا وذلا (عِنْدَ رَبِّهِمْ) المحسن إليهم المتوحد بتدبيرهم قائلين بغاية الذل والرقة (رَبَّنا) أي : المحسن إلينا (أَبْصَرْنا) أي : ما كنا نكذب به (وَسَمِعْنا) منك تصديق الرسل فيما كذبناهم فيه (فَارْجِعْنا) بما لك من هذه الصفة المقتضية للإحسان إلى الدنيا دار العمل (نَعْمَلْ صالِحاً) فيها (إِنَّا مُوقِنُونَ) أي : ثابت لنا الآن الإيقان بجميع ما أخبرنا به عنك. فلا ينفعهم ذلك ولا يرجعون ، وجواب لو محذوف تقديره : لرأيت أمرا فظيعا ، والمخاطب يحتمل أن يكون النبي صلىاللهعليهوسلم شفاء لصدره ، فإنهم كانوا يؤذونه بالتكذيب ، ويحتمل أن يكون عاما. وإذ على بابها من المضي لأن لو تصرف المضارع للمضي ، وإنما جيء هنا ماضيا لتحقيق وقوعه نحو (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] وجعله أبو البقاء مما وقع فيه إذ موقع إذا ولا حاجة إليه.
وقوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا) أي : بما لنا من العظمة (لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ) أي : مكلفة لأن الكلام