يستوي جمع من هؤلاء بجميع من أولئك ولا فرد بفرد. قال قتادة : لا يستوون لا في الدنيا ولا عند الموت ولا في الآخرة.
ولما نفى استواءهم أتبعه حال كلّ على سبيل التفصيل وبدأ بحال المؤمن بقوله تعالى : (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا) أي : تصديقا لإيمانهم (الصَّالِحاتِ) أي : الطاعات (فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى) أي : التي يأوي إليها المؤمنون فإنها المأوى الحقيقي والدنيا منزل مرتحل عنها لا محالة ، وهي نوع من الجنات قال الله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) [النجم : ١٣ ، ١٥] سميت بذلك لما روي عن ابن عباس قال : تأوي إليها أرواح الشهداء وقيل هي عن يمين العرش (نُزُلاً) أي : عدادا لهم أول قدومهم قال البقاعي : كما يهيأ للضيف على ما لاح أي : عند قدومه (بِما) أي : بسبب ما (كانُوا يَعْمَلُونَ) من الطاعات فإن أعمالهم من رحمة ربهم ، وإذا كانت هذه الجناب نزلا فما ظنك بما بعد ذلك هو لعمري ما أشار إليه قوله صلىاللهعليهوسلم : «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» (١) وهم كل لحظة في زيادة لأن قدرة الله تعالى لا نهاية لها ، فإياك أن تخادع أو يغرنك ملحد.
ثم ثنى بحال الكافر بقوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا) أي : خرجوا عن دائرة الإيمان الذي هو معدن التواضع وأهل للمصاحبة والملازمة (فَمَأْواهُمُ النَّارُ) أي : التي لا صلاحية فيها للإيواء بوجه من الوجوه ملجؤهم ومنزلهم أي : فالنار لهم مكان جنة المأوى للمؤمنين (كُلَّما أَرادُوا) أي : وهم مجتمعون ، فكيف إذا أراد بعضهم (أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها) بأن يخيل إليهم ما يظنون به القدرة على الخروج منها كما كانوا يخرجون نفوسهم من محيط الأدلة ومن دائرة الطاعات إلى ميدان المعاصي والزلات فيعالجون الخروج ، فإذا ظنوا أنه تيسر لهم وهم بعد في غمراتها (أُعِيدُوا فِيها) فهو عبارة عن خلودهم فيها (وَقِيلَ لَهُمْ) أي : من أي : قائل وكل بهم (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ) إهانة لهم وزيادة في تغيظهم وقوله تعالى (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) صفة لعذاب ، وجوز أبو البقاء أن يكون صفة للنار قال : وذكر على معنى الجحيم والحريق.
ولما كان المؤمنون الآن يتمنون إصابتهم بشيء من الهوان قال تعالى :
(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠))
(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) أي : عذاب الدنيا ، قال الحسن : هو مصائب الدنيا
__________________
(١) تقدم الحديث مع تخريجه قبل قليل.