عمله فيجازى بجميع ما يفعله من السوء ، وليس لقائل أن يقول : لم قيل وهل يجازى إلا الكفور على اختصاص الكفر بالجزاء والجزاء عام للمؤمن والكافر؟ لأنه لم يرد الجزاء العام إنما أراد الخاص ، وهو العقاب بل لا يجوز أن يراد العموم وليس بموضعه ، ألا ترى أنك لو قلت : جزيناهم بما كفروا وهل يجازى إلى الكافر والمؤمن لم يصح ولم يعد كلاما فتبين أنما يتخيل من السؤال مضمحل ، وإن الصحيح الذي لا يجوز غيره ما جاء عليه كلام الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالنون مضمومة وكسر الزاي الكفور بالنصب والباقون بالياء المضمومة ونصب الزاي الكفور بالرفع.
ولما تم الخبر عن الجنان التي بها القوام نعمة ونقمة أتبعه مواضع السكان بقوله تعالى : (وَجَعَلْنا) أي : بما لنا من العظمة (بَيْنَهُمْ) أي : بين سبأ وهم بالمين (وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها) أي : بالتوسعة على أهلها بالماء والشجر ، وغيرهما وهي قرى الشام التي يسيرون إليها للتجارة (قُرىً ظاهِرَةً) أي : متواصلة من اليمن إلى الشام (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي : بحيث يقيلون في واحدة ويبيتون في أخرى إلى انتهاء سفرهم ولا يحتاجون فيه إلى حمل زاد وماء من سبأ إلى الشام.
وقيل : كانت قراهم أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة من سبأ إلى الشام فلا يحملون شيئا مما جرت به عوائد السفار فكان سيرهم في الغدو والرواح على قدر نصف يوم ، فإذا ساروا نصف يوم وصلوا إلى قرية ذات مياه وأشجار ، وقال قتادة : كانت المرأة تخرج ومعها مغزلها وعلى رأسها مكتلها فتمتهن بغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ مكتلها من الثمار ، فكان ما بين اليمن والشام كذلك ، فهي حقيقة بأن يقال لأهلها والنازلين بها على سبيل الامتنان بلسان القال أو الحال (سِيرُوا) ودل على تقاربها جدا قوله تعالى : (فِيها) ودل على كثرتها وطول مسافتها وصلاحيتها للسير أيّ وقت أريد مقدما لما هو أدل على الأمن وأعدل للسير في البلاد الحارة بقوله تعالى : (لَيالِيَ) وأشار إلى كثرة الظلال والرطوبة والاعتدال الذي يمكن معه السير في جميع النهار بقوله تعالى : (وَأَيَّاماً) أي : في أيّ وقت شئتم وإلى عظيم أمانها في كل وقت بالنسبة إلى كل مسلم بقوله (آمِنِينَ) أي : لا تخافون في ليل أو نهار وإن طالت مدة سفركم فيها ، أو سيروا فيها ليالي أعماركم وأيامها لا تلقون فيها إلا الأمن فلا تخافون عدوا ولا جوعا ولا عطشا.
وقيل : تسيرون فيها إن شئتم ليالي ، وإن شئتم أياما لعدم الخوف بخلاف المواضع المخوفة فإن بعضها يسلك ليلا لعدم علم العدو بسيرهم ، وبعضها يسلك نهارا لئلا يقصدهم العدو إذا كان العدو غير مجاهر بالقصد والعداوة.
ولما انقضى الخبر عن هذه الأوصاف التي تستدعي غاية الشكر لما فيها من الألطاف دل على بطرهم للنعمة بها بأنهم جعلوها سببا للضجر والملال بقوله تعالى : (فَقالُوا) أي : على وجه الدعاء (رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) أي : إلى الشام أي : اجعلها مفاوز ليتطاولوا فيها على الفقراء بركوب الرواحل ، وتزوّد الأزواد والماء فبطروا النعمة وملوا العافية كبني إسرائيل لما طلبوا الثوم والبصل فأجابهم الله تعالى بتخريب القرى المتوسطة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بتشديد العين ولا ألف قبلها فعل طلب ، والباقون بألف قبل العين وتخفيف العين ، وقرئ بلفظ الخبر على أنه شكوى منهم لبعد سفرهم إفراطا في الترفه وعدم الاعتداد بما أنعم الله عليهم فيه (وَظَلَمُوا) حيث عدوا