النعمة نقمة والإحسان إساءة (أَنْفُسَهُمْ) بالكفر (فَجَعَلْناهُمْ) أي : بما لنا من العظمة (أَحادِيثَ) أي : عبرة لمن بعدهم يتحدث الناس بهم تعجبا وضرب مثل فيقولون : ذهبوا أيدي سبأ وتفرقوا أيادي سبأ قال كثير (١) :
أيادي سبا يا عزّ ما كنت بعدكم |
|
فلم يحل للعينين بعدك منظر |
(وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي : فرقناهم في كل جهة من البلاد كل التفريق قال الشعبي : لما غرقت قراهم تفرقوا في البلاد ، أما غسان فلحقوا بالشام ، ومرّ الأزد إلى عمان ، وخزاعة إلى تهامة ، ومرّ خزيمة إلى العراق ، والأوس والخزرج إلى يثرب ، وكان الذي قدم منهم المدينة عمرو بن عامر وهو جد الأوس والخزرج (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : المذكور (لَآياتٍ) أي : عبرا ودلالات بينة جدا على قدرة الله تعالى على التصرف فيما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض بالإيجاد والإعدام للذوات والصفات والخسف والمسخ ، فإنه لا فرق بين خارق وخارق ، وعلى أن بطرهم لتلك النعمة حتى ملوها ودعوا بإزالتها ، دليل على أن الإنسان ما دام حيا فهو في نعمة يجب عليه شكرها كائنة ما كانت وإن كان يراها بلية لأنه لما طبع عليه من القلق كثيرا ما يرى النعم نقما ، واللذة ألما ، ولذلك ختم الآية بالصبر بصيغة المبالغة بقوله تعالى : (لِكُلِّ صَبَّارٍ) على طاعة الله وعن معصيته (شَكُورٍ) لنعمه قال مقاتل : يعني المؤمن من هذه الأمة صبور على البلاء شكور على النعماء قال مطرف : هو المؤمن إذا أعطي شكر ، وإذا ابتلى صبر.
وقرأ قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ) أي : الذي هو من البلس وهو ما لا خير عنده ، أو الإبلاس وهو اليأس من كل خير ليكون ذلك أبلغ في التبكيت والتوبيخ (ظَنَّهُ) قرأه الكوفيون بتشديد الدال بعد الصاد أي : ظن فيهم ظنا حيث قال : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلَّا عِبادَكَ) [ص : ٨٢] (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) [الأعراف ، ١٧] فصدق ظنه وحققه بفعله ذلك بهم واتباعهم إياه ، والباقون بالتخفيف أي : صدّق عليهم في ظنه بهم أي : على أهل سبأ كما قاله أكثر المفسرين حين رأى انهماكهم في الشهوات أو الناس كلهم كما قاله مجاهد أي : حين رأى أباهم آدم ضعيف العزم ، أو ما ركب فيهم من الشهوة والغضب أو سمع من الملائكة (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) [البقرة : ٣٠] فقال : لأضلنهم ولأغوينهم ، أو الكفار ومنهم سبأ كما قاله الجلال المحلي (فَاتَّبَعُوهُ) أي : بغاية الجهد بميل الطبع وقوله (إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) استثناء متصل على قول مجاهد ومنقطع على قول غيره ، وقال السدي عن ابن عباس رضي الله عنه : يعني المؤمنين كلهم لأن المؤمنين لم يتبعوه في أصل الدين وتقليلهم بالإضافة إلى الكفار ، أو إلا فريقا من فرق المؤمنين لم يتبعوه في العصيان وهم المخلصون قال ابن قتيبة : إن إبليس لعنه الله تعالى لما سأل النظرة فأنظره الله تعالى وقال (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ) [الحجر : ٣٩] و (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) [النساء : ١١٩] لم يكن مستيقنا وقت هذه المقالة أن ما قاله فيهم يتم ، وإنما قاله ظنا ، فلما اتبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم.
ولما كان ذلك ربما أوهم أن لإبليس أمرا بنفسه نفاه بقوله تعالى : (وَما) أي : والحال أنه ما
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو لكثير عزّة في ديوانه ص ٣٢٨ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٦٨٧ ، وبلا نسبة في رصف المباني ص ٢٨٨ ، وشرح الأشموني ٣ / ٥٤٨ ، ومغني اللبيب ١ / ٢٨٥.