تنبيه : في تكرير الفعل وهو قال : والتصريح بذكر الكفرة وما في لا من الذين والحق من الإشارة إلى القائلين والمقول فيه ، وما في لما من المفاجأة إلى البت بهذا القول إنكار عظيم للقول وتعجيب بليغ منه.
ولما بارزوا بهذا القول من غير أثارة من علم ولا خبر من سمع بين ذلك بقوله تعالى : (وَما) أي : قالوا ذلك والحال أنا ما (آتَيْناهُمْ) أي : هؤلاء العرب (مِنْ كُتُبٍ) أصلا لأنهم لم ينزل عليهم قط قبل القرآن كتاب ، وأتى بصيغة الجمع مع تأكيد النفي قبل كتابك الجامع (يَدْرُسُونَها) أي : يجددون دراستها كل حين فيها دليل على صحة الإشراك (وَما أَرْسَلْنا) أي : إرسالا لا شبهة فيه لمناسبته لما لنا من العظمة (إِلَيْهِمْ) أي : خاصة بمعنى أن ذلك الرسول مأمور بهم بأعيانهم فهم مقصودون بالذات لا أنهم داخلون في عموم أو مقصودون من باب الأمر بالمعروف وفي جميع الزمان الذي (قَبْلَكَ) أي : قبل رسالتك الجامعة لكل رسالة (مِنْ نَذِيرٍ) أي : ليكون عندهم قول منه يدعوهم إلى الإشراك أو ينذرهم على تركه وهذا في غاية التجهيل لهم والتسفيه لرأيهم.
ثم هددهم بقوله تعالى : (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : من قوم نوح ومن بعدهم بادروا إلى ما بادر إليه هؤلاء من التكذيب ، لأن التكذيب كان في طباعهم لما عندهم من الجلافة والكبر (وَما بَلَغُوا) أي : هؤلاء (مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) أي : عشرا صغيرا مما آتينا أولئك من القوة في الأبدان والأموال والمكنة في كل شيء من العقول وطول الأعمار والخلو من الشواغل (فَكَذَّبُوا) أي : بسبب ما طبعوا عليه من العناد (رُسُلِي) إليهم (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي : إنكاري على المكذبين لرسلي بالعقوبة والإهلاك أي : هو واقع موقعه فليحذر هؤلاء من مثله ولا تكرير في كذب لأن الأول للتكثير أي : فعلوا التكذيب كثيرا فكان سببا لتكذيب الرسل والثاني : للتكذيب أو الأول : مطلق والثاني : مقيد ولذلك عطف عليه.
(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ) أي : أرشدكم وأنصح لكم (بِواحِدَةٍ) أي : بخصلة واحدة هي (أَنْ تَقُومُوا) أي : توجهوا نفوسكم إلى تعرف الحق وعبر بالقيام إشارة إلى الاجتهاد (لِلَّهِ) أي : الذي لا أعظم منه على وجه الإخلاص واستحضار ما له من العظمة بما له لديكم من الإحسان لا لإرادة المغالبة حال كونكم (مَثْنى) أي : اثنين اثنين قال البقاعي : وقدمه إشارة إلى أن أغلب الناس ناقص العقل (وَفُرادى) أي : واحدا واحدا من وثق بنفسه في رصانة عقله وإصابة رأيه قام وحده ليكون أصفى لسره وأعون على خلوص فكره ، ومن خاف عليها ضم إليه آخر ليذكره إذا نسي ويقومه إذا زاغ ، ولم يذكر غيرهما من الأقسام لأن الازدحام يشوش الخواطر ويخلط القول.
ولما كان ما طلب منهم هذا لأجله عظيما جديرا بأن يهتم له هذا الاهتمام أشار إليه بأداة التراخي بقوله تعالى : (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) أي : في أمر محمد صلىاللهعليهوسلم وما جاء به لتعلموا حقيته (ما بِصاحِبِكُمْ) أي : رسولكم الذي أرسل إليكم وهو محمد صلىاللهعليهوسلم (مِنْ جِنَّةٍ) أي : جنون يحمله على ذلك (أَنْ) أي : ما (هُوَ) أي : المحدث عنه بعينه (إِلَّا نَذِيرٌ) أي : خالص إنذاره (لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ) أي : قبل حلول (عَذابٍ شَدِيدٍ) أي : في الآخرة إن عصيتموه ، روى البخاري عن ابن عباس أنه قال : «صعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم الصفا ذات يوم فقال : يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش فقالوا : ما لك فقال : أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم أو يمسيكم أما كنتم تصدقوني قالوا : بلى قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب : تبا لك ألهذا جمعتنا فأنزل الله تعالى