يقال : إنها منجمة أي : مفرقة ومنه نجوم المكاتب والمعنى : أنه لما سمع كلماتهم المتفرقة نظر فيها حتى يستخرج منها حيلة يقدر بها على إقامة عذر لنفسه في التخلف عنهم فلم يجد عذرا أحسن من قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) والمراد : أنه لا بد من أن يصير سقيما كما تقول لمن رأيته يتجهز للسفر إنك مسافر.
ولما قال : (إِنِّي سَقِيمٌ) تولوا عنه كما قال تعالى : (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ) أي : إلى عيدهم (مُدْبِرِينَ) أي : هاربين مخافة العدوى وتركوه وعذروه في عدم الخروج إلى عيدهم.
(فَراغَ) أي : مال في خفية وأصله من روغان الثعلب وهو تردده وعدم ثبوته بمكان ولا يقال : راغ حتى يكون صاحبه مخفيا لذهابه ومجيئه (إِلى آلِهَتِهِمْ) وعندها الطعام (فَقالَ) استهزاء بها (أَلا تَأْكُلُونَ) أي : الطعام الذي كان بين أيديهم فلم ينطقوا فقال استهزاء بها أيضا : (ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) فلم تجب.
(فَراغَ عَلَيْهِمْ) أي : مال عليهم مستخفيا وقوله تعالى (ضَرْباً) مصدر واقع موقع الحال أي : فراغ عليهم ضاربا أو مصدر لفعل ، وذلك الفعل حال تقديره فراغ يضرب ضربا وقوله تعالى : (بِالْيَمِينِ) متعلق بضربا إن لم نجعله مؤكدا وإلا فبعامله ، واليمين يجوز أن يراد بها إحدى اليدين وهو الظاهر ، وأن يراد بها القوة واقتصر عليه الجلال المحلي فالباء على هذا للحال أي : متلبسا بالقوة وأن يراد بها الحلف وفاء بقوله (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) [الأنبياء : ٥٧] والباء على هذا للسبب وعدى راغ الثاني بعلى لما كان مع الضرب المستولي من فوقهم إلى أسفلهم بخلاف الأول فإنه مع توبيخ لهم ، وأتى بضمير العقلاء في قوله تعالى : (عَلَيْهِمْ ضَرْباً) على ظن عبدتها أنها كالعقلاء ثم إنه عليهالسلام كسرها فبلغ قومه من ورائه ذلك.
(فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ) أي : إلى إبراهيم بعدما رجعوا فرأوا أصنامهم مكسرة (يَزِفُّونَ) أي : يسرعون المشي ، وقرأ حمزة بضم الياء على البناء للمفعول من أزفه أي : يحملون على الزفيف ، والباقون بفتحها من زف يزف فقالوا : نحن نعبدها وأنت تكسرها. (قالَ) لهم توبيخا (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) أي : من الحجارة وغيرها أصناما. (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) أي : نحتكم ومنحوتكم فاعبدوه وحده.
تنبيه : دلت هذه الآية على مذهب الأشعرية وهو أن فعل العبد مخلوق لله عزوجل وهو الحق وذلك ؛ لأن النحويين اتفقوا على أن لفظ ما مع ما بعده في تقدير المصدر فقوله تعالى (وَما تَعْمَلُونَ) معناه وعملكم وعلى هذا فيصير معنى الآية : والله خلقكم وخلق عملكم.
ولما أورد عليهم الحجة القوية ولم يقدروا على الجواب عدلوا إلى طريقة الإيذاء لئلا يظهر للعامة عجزهم بأن : (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً) قال ابن عباس رضي الله عنهما : بنوا حائطا من الحجر طوله في السماء ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا وملؤوه نارا فطرحوه فيها وذلك هو قوله تعالى (فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) وهي النار العظيمة قال الزجاج : كل نار بعضها فوق بعض فهي جحيم.
(فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) أي : شرا بإلقائه في النار لتهلكه (فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) أي : المقهورين الأذلين بإبطال كيدهم وجعلنا ذلك برهانا نيرا على علو شأنه حيث جعلنا النار عليه بردا وسلاما وخرج منها سالما.
(وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) أي : إلى حيث أمرني ربي ونظيره قوله تعالى (وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ