التبرك عليه فإذا رجعوا أكلوه وقالوا للسيد إبراهيم عليه الصلاة والسلام : اخرج.
(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) إيهاما لهم أنه يعتمد عليها فيتبعوه. (فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) أي : عليل وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة وأراد أن يتخلف عنهم ليبقى خاليا في بيت الأصنام فيقدر على كسرها. فإن قيل : النظر في علم النجوم غير جائز فكيف قدم إبراهيم عليهالسلام عليه وأيضا لم يكن سقيما فكيف أخبرهم بخلاف حاله؟ أجيب عن ذلك : بأنا لا نسلم أن النظر في علم النجوم والاستدلال بها حرام ؛ لأن من اعتقد أن الله تعالى خص كل واحد من هذه الكواكب بطبع وخاصة لأجلها يظهر منه أثر مخصوص فهذا العلم على هذا الوجه ليس بباطل وأما الكذب فغير لازم ؛ لأن قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) على سبيل التعريض بمعنى أن الإنسان لا ينفك في أكثر أحواله عن حصول حالة مكروهة إما في بدنه وإما في قلبه وكل ذلك سقم ، وعلى تقدير تسليم ذلك أجيب بأوجه :
أحدها : أن نظره في النجوم أو في أوقات الليل والنهار وكانت تأتيه الحمى في بعض ساعات الليل والنهار ، فنظر ليعرف هل هي تلك الساعة فقال (إِنِّي سَقِيمٌ) فجعله عذرا في تخلفه عن العيد الذي لهم فكان صادقا فيما قال ؛ لأن السقم كان يأتيه في ذلك الوقت.
ثانيها أنهم كانوا أصحاب النجوم أي : يعلمونها ويقضون بها على أمورهم ، فلذلك نظر إبراهيم في النجوم أي : في علم النجوم كما تقول : نظر فلان في الفقه أي : في علم الفقه فأراد إبراهيم أن يوهمهم أنه نظر في عملهم وعرف منه ما يعرفونه حتى إذا قال لهم (إِنِّي سَقِيمٌ) سكنوا إلى قوله ، وأما قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) فمعناه سأسقم كقوله تعالى (إِنَّكَ مَيِّتٌ) [الزمر : ٣٠] أي : ستموت.
ثالثها : أن نظره في النجوم هو قوله تعالى (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً) إلخ الآيات [الأنعام : ٧٦] فكان نظره ليتعرف هذه الكواكب هل هي قديمة أو حادثة وقوله (إِنِّي سَقِيمٌ) أي : سقيم القلب غير عارف بربي وكان ذلك قبل بلوغه.
رابعها : قال ابن زيد : كان له نجم مخصوص وكلما طلع على صفة مخصوصة مرض إبراهيم فلهذا الاستقراء لما رآه في تلك الحالة المخصوصة قال (إِنِّي سَقِيمٌ) أي : هذا السقم واقع لا محالة.
خامسها : أن قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) أي : مريض القلب بسبب إطباق ذلك الجمع العظيم على الكفر والشرك كقوله تعالى لمحمد صلىاللهعليهوسلم (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) [الكهف : ٦].
سادسها : قال الرازي : قال بعضهم : ذلك القول من إبراهيم عليهالسلام كذبة وأوردوا فيه حديثا عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «ما كذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات» (١) قلت لبعضهم هذا الحديث لا ينبغي أن ينقل ؛ إذ فيه نسبة الكذب إلى إبراهيم عليهالسلام فقال ذلك الرجل : فكيف نحكم بكذب الراوي العدل؟ فقلت له : لما وقع التعارض بين نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبة الكذب إلى الخليل كان من المعلوم بالضرورة أن نسبة الكذب إلى الراوي أولى ، ثم نقول : لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) أي : نجوم كلامهم ومتفرقات أقوالهم فإن الأشياء التي تحدث قطعة قطعة
__________________
(١) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء حديث ٣٣٥٨ ، ومسلم في الفضائل حديث ٢٥٤٢.