مصفر اللون منحطم الأعضاء والأجزاء ثم تكون عاقبته الموت ، فإذا كانت مشاهدة هذه الأحوال في النبات مذكرة حصول مثل هذه الأحوال في نفسه في حياته فحينئذ تعظم نفرته عن الدنيا ولذاتها.
ولما بين تعالى الدلائل على وجوب الإقبال على طاعة الله تعالى ووجوب الإعراض عن الدنيا ولذاتها ذكر أن الانتفاع بهذه البيانات لا يكمل إلا إذا شرح الصدور ونور القلوب فقال سبحانه : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ) أي : الذي له القدرة الكاملة (صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) أي : وسعه لقبول الحق فاهتدى (فَهُوَ) أي : بسبب ذلك (عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) أي : المحسن إليه كمن أقسى الله تعالى قلبه دل على هذا (فَوَيْلٌ) كلمة عذاب (لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) قال مالك بن دينار : ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب ، وما غضب الله تعالى على قوم إلا نزع منهم الرحمة ، وأما نور الله تعالى فهو لطفه. روي : «أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قرأ هذه الآية فقيل : يا رسول الله فما علامة انشراح الصدر للإسلام قال : الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزول الموت» (١).
فإن قيل : إن ذكر الله تعالى سبب لحصول النور والهداية وزيادة الاطمئنان قال تعالى (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد : ٢٨] فكيف جعله في هذه الآية سببا لحصول القسوة في القلب؟ أجيب : بأن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر كدرة العنصر ، بعيدة عن مناسبة الروحانيات شديدة الميل إلى الطباع البهيمية والأخلاق الذميمة فإن سماعها لذكر الله تعالى يزيدها قسوة وكدرة ، مثاله أن الفاعل الواحد تختلف أمثاله بحسب اختلاف القوابل كنور الشمس يسود وجه القصار ويبيض ثوبه ، وحرارة الشمس تلين الشمع وتعقد الملح ، وقد نرى إنسانا واحدا يذكر كلاما واحدا في مجلس واحد فيستطيبه واحد ويستكرهه غيره وما ذاك إلا بحسب اختلاف جواهر النفوس ، ولما نزل قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٢] الآية وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه حاضر وإنسان آخر فلما انتهى رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) [المؤمنون : ١٤] قال كل واحد منهما (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اكتب فكذا نزلت» (٢) فازداد عمر رضي الله عنه إيمانا على إيمانه وارتد ذلك الإنسان. وإذا عرف ذلك لم يبعد أن يكون ذكر الله تعالى يوجب النور والهداية والاطمئنان في النفوس الطاهرة الروحانية ويوجب القنوط والبعد عن الحق في النفوس الخبيثة ، وقيل : من بمعنى عن أي : قست قلوبهم عن قبول ذكر الله وجرى على ذلك الجلال المحلي (أُولئِكَ) أي : هؤلاء البعداء (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : بين قيل : نزلت هذه الآية في أبي بكر رضي الله عنه وفي أبي بن خلف ، وقيل : في علي وحمزة وأبي لهب وولده وقيل : في رسول الله صلىاللهعليهوسلم وفي أبي جهل.
(اللهُ) الفعال لما يريد الذي له مجامع العظمة والإحاطة بصفات الكمال (نَزَّلَ) أي : بالتدريج للتدريب وللجواب عن كل شبهة (أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) أي : القرآن روي أن أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ملوا ملة فقالوا : حدثنا فنزلت وكونه أحسن الحديث لوجهين ؛ أحدهما : من جهة اللفظ ،
__________________
(١) أخرجه الطبري في تفسيره ١٠٧٨٥ ، ١٠٧٨٧.
(٢) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ١١ / ٤٣٩ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ١٤٤٣١.