والآخر : من جهة المعنى ، أما الأول : فلأن القرآن أفصح الكلام وأبلغه وأجزله وليس هو من جنس الشعر ولا من جنس الخطب ولا من جنس الرسائل بل هو نوع يخالف الكل في أسلوبه مع أن كل طبع سليم يستلذه ويستطيبه ، وأما من جهة المعنى : فهو منزه عن التناقض والاختلاف قال جل ثناؤه : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢] ومشتمل على أخبار الماضين وقصص الأولين وعلى أخبار الغيوب الكثيرة في الماضي والمستقبل وعلى الوعد والوعيد والجنة والنار ، وفي إيقاع لفظ الجلالة مبتدأ وبناء نزل عليه تفخيم لأحسن الحديث واستشهاد على حسنه وتأكيده لاستناده إلى الله تعالى وأنه من عنده وأن مثله لا يجوز أن يصدر إلا عنه وتنبيه على أنه وحي معجز مباين لسائر الأحاديث.
وقوله تعالى : (كِتاباً) أي : جامعا لكل خير بدل من أحسن الحديث ، وقيل : حال منه بناء على أن أحسن الحديث معرفة لإضافته إلى معرفة ، وأفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة فيه خلاف فقيل : إضافته محضة وقيل : غير محضة والصحيح الأول وقوله تعالى : (مُتَشابِهاً) نعت لكتابا وهو المسوغ لمجيء الجامد حالا أو أنه في قوة مكتوب وتشابهه بتشابه أبعاضه في الإعجاز والبلاغة والموعظة الحسنة لا تفاوت فيه أصلا في لفظ ولا معنى مع كونه نزل مفرقا في نيف وعشرين سنة ، وأما كلام الناس فلا بد فيه من التفاوت وإن طال الزمان في التهذيب سواء اتحد زمانه أم لا.
وقوله تعالى : (مَثانِيَ) جمع مثنى بمعنى مردد ومكرر لما ثنى من قصصه وأنبائه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده ومواعظه أو جمع مثنى مفعل من التثنية بمعنى التكرير والإعادة ، وقيل : لأنه يثنى في التلاوة فلا يمل كما جاء في وصفه لا يخلق على كثرة الترداد.
فإن قيل : كيف وصف كتابا وهو مفرد بالجمع؟ أجيب : بأن الكتاب جملة ذات تفاصيل وتفاصيل الشيء هي جملته لا غير ألا ترى أنك تقول : القرآن أسباع وأخماس وسور وآيات فكذلك تقول : أقاصيص وأحكام ومواعظ مكررات ونظيره قولك الإنسان عظام وعروق وأعصاب إلا أنك تركت الموصوف إلى الصفة وأصله كتابا متشابها فصولا مثاني ، ويجوز أن يكون مثاني منتصبا على التمييز من متشابها كما تقول : رأيت رجلا حسنا شمائل.
فإن قيل : ما فائدة التثنية والتكرير؟ أجيب : بأن النفوس أنفر شيء عن حديث الوعظ والنصيحة ، فما لم يكرر عليها عودا على بدء لم يرسخ فيها ولم يعمل عمله ومن ثم كانت عادة رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يكرر عليهم ما كان يعظهم به وينصح ثلاث مرات وسبعا ليركزه في قلوبهم ويغرسه في صدورهم (تَقْشَعِرُّ) أي : تضطرب وتشمئز (مِنْهُ) عند ذكر وعيده (جُلُودُ) أي : ظواهر أجسام (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ) أي : يخافون (رَبَّهُمْ) والمعنى تأخذهم قشعريرة وهو تغير يحدث في جلد الإنسان عند ذكر آيات العذاب (ثُمَّ تَلِينُ) أي : تطمئن (جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) أي : عند ذكر وعده ، والمعنى إذا ذكرت آيات الرحمة لانت وسكنت قلوبهم كما قال تعالى : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد : ٢٨] روي عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تعالى تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها» (١) وفي رواية : «حرمه
__________________
(١) أخرجه المنذري في الترغيب والترهيب ٤ / ٢٢٦ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ١٠ / ٣١٠ ، والبغوي في تفسيره ٦ / ٧٣ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٥٨٧٩ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٦ / ٢١٤.