(وَهُمْ بِالْآخِرَةِ) أي : الحياة التي بعد هذه ولا بعد لها (هُمْ كافِرُونَ) واحتج من قال إنّ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة بهذه الآية فقالوا : إن الله تعالى توعدهم بأمرين أحدهما : كونهم مشركين والثاني : لا يؤتون الزكاة ، فوجب أن يكون لكل واحد من هذين تأثير في حصول الوعيد وذلك يدل على أن لعدم إيتاء الزكاة مع الشرك تأثيرا عظيما في زيادة الوعيد وهو المطلوب ، فإن قيل : لم خص تعالى من أوصاف المشركين منع الزكاة مقرونا بالكفر بالآخرة؟ أجيب : بأن أحب شيء إلى الإنسان ماله وهو شقيق روحه فإذا بذله في سبيل الله فذلك أقوى دليل على ثباته واستقامته وصدق نيته ونصوح طويته ألا ترى قوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [البقرة : ٢٦٥] أي : يثبتون أنفسهم ويدلون على ثباتها بإنفاق الأموال وما خدع المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا فقرت عصبيتهم ولانت شكيمتهم ، وأهل الردة بعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما تظاهروا إلا بمنع الزكاة فنصبت لهم الحروب وجوهدوا ، وفيه بعث للمؤمنين على أداء الزكاة وتخويف شديد في منعها ، حيث جعل المنع من أوصاف المشركين وقرن بالكفر بالآخرة ، وقال ابن عباس : هم الذين لا يقولون لا إله إلا الله وهي زكاة الأنفس ، والمعنى : لا يطهرون أنفسهم من الشرك بالتوحيد ، وقال الحسن وقتادة : لا يقرون بالزكاة ولا يرون إيتاءها واجبا وكان يقال : الزكاة قنطرة الإسلام فمن قطعها نجا ومن تخلف عنها هلك. وقال الضحاك ومقاتل : لا ينفقون في الطاعة ولا يتصدقون ، وقال مجاهد : لا يزكون أعمالهم.
ولما ذكر تعالى ما للجاهلين وعيدا وتحذيرا ذكر ما لأضدادهم وعدا وتبشيرا فقال تعالى مجيبا لمن تشوق لذلك مؤكدا لإنكار من ينكره : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي : بما آتاهم الله تعالى من العلم النافع (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) من الزكاة وغيرها من أنواع الطاعات (لَهُمْ أَجْرٌ) أي : عظيم (غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي : غير مقطوع جزاء على سماحهم بالفاني اليسير من أموالهم في الزكاة وغيرها وما أمر الله تعالى من أقوالهم وأفعالهم في الآخرة والدنيا ، والممنون المقطوع من مننت الحبل إذا قطعته ومنه قولهم قد منّه السفر أي : قطعه ، وقال مقاتل : غير منقوص ، ومنه المنون لأنه ينقص من الإنسان وقوته ، وأنشدوا لذي الإصبع العدواني (١):
إني لعمرك ما بابي بذي غلق |
|
على الصديق ولا أجري بممنون |
وقيل : غير ممنون به عليهم لأن عطاء الله تعالى لا يمن به إنما يمن المخلوق ، وقال السدي : ةنزلت في المرضى والزمنى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كما صح ما كانوا يعملون فيه ، روى عبد الله بن عمر أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة ثم مرض قيل للملك الموكل به : اكتب له مثل عمله إذا كان طليقا حتى أطلقه أو ألفته إلي» (٢).
ولما ذكر سبحانه وتعالى سفههم في كفرهم بالآخرة ، شرع في ذكر الأدلة على قدرته عليها
__________________
(١) يروى البيت بلفظ :
وقد أجود وما مالي بذي فنع |
|
على الصديق وما خيري بممنون |
والبيت من البسيط ، وهو بلا نسبة في مقاييس اللغة ٤ / ٤٥٤ ، والأغاني ٣ / ١٠١.
(٢) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ٢٠٣ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٣ / ٣٧٤ ، وعبد الزراق في المصنف ٢٠٣٠٨.