ولما ذكر تعالى الدلائل الأربعة الفلكية أتبعها بذكر الدلائل الأرضية فقال تعالى :
(وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦))
(وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على قدرته ووحدانيته (أَنَّكَ) أي : أيها الإنسان (تَرَى الْأَرْضَ) أي : بعضها بحاسة البصر وبعضها بعين البصيرة قياسا على ما أبصرت (خاشِعَةً) أي : يابسة لا نبات فيها والخشوع التذلل والتقاصر فاستعير لحال الأرض إذا كانت قحطة لا نبات فيها كما وصفها بالهمود في قوله تعالى : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) [الحج : ٥] وهو خلاف وصفها بالاهتزاز والربو ، كما قال تعالى : (فَإِذا أَنْزَلْنا) أي : بما لنا من العظمة (عَلَيْهَا الْماءَ) من الغمام أو غيره (اهْتَزَّتْ) أي : تحركت حركة عظيمة كثيرة سريعة فكان كمن يعالج ذلك بنفسه (وَرَبَتْ) أي : تشققت فارتفع ترابها وخرج منها النبات وسما في الجو مغطيا لوجهها وتشعبت عروقه وغلظت سوقه فصار يمنع سلوكها على ما كانت فيه من السهولة وتزخرفت بذلك النبات كأنها بمنزلة المختال في زيه بعدما كانت قبل ذلك كالذليل الكاسف البال في الأطمار الرثة ، وقرأ السوسي : ترى الأرض في الوصل بالإمالة بخلاف منه ، والباقون بالفتح ، وفي الوقف أمالة محضة أبو عمرو وحمزة والكسائي ، وورش بين بين ، والباقون بالفتح ، ثم استدل بذلك على القدرة على البعث فقال تعالى : (إِنَّ الَّذِي أَحْياها) أي : بما أخرج من نباتها بعد أن كانت ميتة (لَمُحْيِ الْمَوْتى) كما فعل بالنبات من غير فرق (إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو قادر على إحياء الأرض بعد موتها وعلى إحياء هذه الأجساد بعد موتها لأن الممكنات بالنسبة إلى القدرة متساوية فالقادر قدرة تامة على شيء منها قادر على غيره.
ثم إنه تعالى هدد من يجادل في آياته بإلقاء الشبهات فيها بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) أي : القرآن على ما لها من العظمة بالطعن والتحريف والتأويل الباطل والإلغاز فيها ، وقرأ حمزة بفتح الياء والحاء من لحد ، والباقون بضم الياء وكسر الحاء من ألحد يقال : لحد الحافر وألحد إذا مال عن الاستقامة بحفره في شق ، فالملحد هو المنحرف ، ثم اختص في العرف بالمنحرف عن الحق إلى الباطل ، قال مجاهد : يلحدون في آياتنا بالمكاء والتصدية واللغو واللغط ، وقال السدي : يعاندون ويشاقون (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) أي : في وقت من الأوقات ونحن قادرون على أخذهم متى شئنا أخذنا ولا يعجل إلا من يخشى الفوات ، قال مقاتل : نزلت في أبي جهل وقوله تعالى (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ) أي : على وجهه بأيسر أمر (خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ)