ألحقها بالمحسوسات ، كما قال القائل لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا.
ولما أنزل الله عليهم الكتاب المشتمل على هذه الدلائل اللطيفة ، كان ذلك من لطف الله تعالى بعباده كما قال عز من قائل : (اللهُ) أي : الذي له الأمر كله (لَطِيفٌ) أي : بالغ في اللطف والعلم وإيقاع الإحسان (بِعِبادِهِ) وقال ابن عباس : حق بهم ، وقال عكرمة : بارّ بهم وقال السدي : رفيق بهم ، وقال القشيري : اللطيف : العالم بدقائق الأمور وغوامضها ، وقال الرازي : هو اسم مركب من علم ورحمة ورفق خفي أما لطفه بالمؤمنين فواضح ، وأما الكافر فأقل لطفه به أنه لا يعاجله في الدنيا ولا يعذبه فوق ما يستحق في الأخرى ، وقال مقاتل : لطيف بالبر والفاجر حيث لم يهلكهم جوعا بمعاصيهم بدليل قوله تعالى : (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) أي : مهما شاء على سبيل من السعة والضيق أو التوسعة لا مانع له من شيء من ذلك ، فكل من رزقه الله تعالى من مؤمن وكافر وذي روح فهو ممن يشاء الله تعالى أن يرزقه ، قال جعفر الصادق : اللطف في الرزق من وجهين ؛ أحدهما : أنه جعل رزقك من الطيبات والثاني : أنه لم يدفعه إليك مرة واحدة (وَهُوَ الْقَوِيُ) أي : القادر على ما يشاء (الْعَزِيزُ) فلا يقدر أحد أن يمنعه عن شيء يريده.
ولما بين بهذا أن الرزق ليس إلا في يده أتبعه ما يزهد في طلب رزق البدن ويرغب في رزق الروح فقال تعالى على سبيل الاستئناف : (مَنْ كانَ) أي : من شريف أو دني (يُرِيدُ) أي : بعمله (حَرْثَ الْآخِرَةِ) أي : أعمالها والحرث في اللغة الكسب (نَزِدْ لَهُ) أي : بعظمتنا التي لا يقدر أحد على تحويلها (فِي حَرْثِهِ) قال مقاتل : بأن يعينه على الأعمال الصالحة ويضاعف بالواحدة عشرة إلى ما شاء الله تعالى من الزيادة ، وقال الزمخشري : إنه تعالى سمى ما يعمله العامل مما يطلب به الفائدة حرثا على سبيل المجاز (وَمَنْ كانَ) أي : من قوي أو ضعيف (يُرِيدُ) أي : بعمله (حَرْثَ الدُّنْيا) أي : أرزاقها التي تطلب بالكد والسعي وتستنمي به مكتفيا به مؤثرا له على الآخرة (نُؤْتِهِ مِنْها) أي : ما قسمناه له ولو تهاون به ولم يطلبه لآتاه ، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة بسكون الهاء ، واختلس قالون كسرة الهاء ، وعن هشام اختلاس الكسرة في الهاء والإشباع ، والباقون بإشباع الكسرة (وَما) أي : والحال أن طالب الدنيا بعمله ما (لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى ، وروى أبي بن كعب أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصرة والتمكن في الأرض ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب» (١). أي : لأن هذا تهاون بالآخرة فلم يبنوها وهي أشرف من أن تقبل على من أعرض عنها فإنها ضرة الدنيا وضدها ، فالدنيا بخساستها تقبل على من أعرض عنها وتبعد عمن أقبل عليها حتى تهلكه في مهاويها ، والآخرة تقبل على من أقبل عليها أضعاف إقباله وتنادي من أدبر عنها لينتهي عن غيه وضلاله ، فلما سمى الله تعالى كلا القسمين حرثا علمنا أن كل واحد منهما لا يحصل إلا بتحمل المشاق والمتاعب وصرف هذه المتاعب إلى ما يكون في الزائد الباقي أولى من صرفها لما يكون في التناقص والانقضاء.
قال الرازي في اللوامع : أهل الإرادة على أصناف مريد الدنيا ومريد الآخرة ومريد الحق جل
__________________
(١) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ١٣٤ ، وابن كثير في تفسيره ٦ / ٨٧ ، وأبو نعيم في حلية الأولياء ١ / ٢٥٥ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٤٤٦٥.