وقوله تعالى : (فَما أُوتِيتُمْ) خطاب للمؤمنين وغيرهم (مِنْ شَيْءٍ) أي : من أثاث الدنيا (فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : القريبة الدنية لا نفع فيه لأحد إلا مدة حياته وذلك جدير بالإعراض عنه وعما يسببه من الأعمال إلا ما يقرب إلى الله تعالى (وَما) أي : والذي (عِنْدَ اللهِ) أي : الملك الأعظم المحيط بكل شيء قدرة وعلما من نعم الدارين (خَيْرٌ) أي : في نفسه وأشد خيرية من النعم الدنيوية المحضة لانقطاع نفعه فسماه متاعا تنبيها على قلته وحقارته ، وجعله من متاع الدنيا تنبيها على انقراضه وأما الآخرة فهي خير (وَأَبْقى) والباقي خير من الخسيس الفاني.
ثم بين تعالى أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن كان موصوفا بصفات الصفة الأولى قوله سبحانه وتعالى (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي : أوجدوا هذه الحقيقة (وَعَلى) أي : والحال إنهم على (رَبِّهِمْ) أي : الذي لم يروا إحسانا قط إلا منه وحده بما رباهم من الإخلاص (يَتَوَكَّلُونَ) أي : يحملون جميع أمورهم عليه كما يحمل غيرهم متاعه على من يتوسم منه قوة على الحمل ولا يلتفتون في ذلك إلى شيء غيره أصلا لينتفي عنهم بذلك الشرك الخفي كما انتفى بالإيمان الشرك الجلي وهذا يرد على من زعم أن الطاعة توجب الثواب لأنه يتوكل على عمل نفسه لا على الله تعالى فلا يدخل تحت الآية.
الصفة الثانية قوله عزوجل : (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ) أي : يكلفون أنفسهم أن يجانبوا (كَبائِرَ الْإِثْمِ) أي : جنس الفعال الكبائر التي لا توجد إلا في ضمن أفرادها ويحصل بها دنس النفس فيوجب عقابها مع الجسم وعطف على كبائر قوله تعالى : (وَالْفَواحِشَ) وهي ما أنكره الشرع والعقل والطبع ، والكبائر كل ذنب تعظم عقوبته كالقتل والزنا والسرقة والفواحش ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال ، وقال مقاتل : ما يوجب الحد وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة النساء ، وقرأ حمزة والكسائي : بكسر الباء الموحدة قبل الياء الساكنة وهي للجنس فهي بمعنى قراءة الجمع ، كما قرأ الباقون بفتح الموحدة وألف بعدها وبعد الألف همزة مكسورة والأولى أبلغ لشمولها المفردة.
الصفة الثالثة : قوله تبارك وتعالى : (وَإِذا ما غَضِبُوا) أي : غضبا هو على حقيقته من أمر مغضب في العادة وبين بضمير الفصل أن بواطنهم في غفرهم كظواهرهم فقال تعالى : (هُمْ يَغْفِرُونَ) أي : هم الأخصاء والأحقاء بأنهم كلما تجدد لهم غضب جددوا غفرا أي : محوا للذنوب عينا وأثرا مع القدرة على الانتقام فسجاياهم تقتضي الصفح دون الانتقام ما لم يكن من الظالم بغي لأنه لا يؤاخذ على مجرد الغضب إلا متكبر والتكبر لا يصلح لغير الإله ، وفي الصحيح : «أنه صلىاللهعليهوسلم ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله تعالى» (١). وروى ابن حاتم عن إبراهيم النخعي قال : «كان المؤمنون يكرهون أن يستذلوا وكانوا إذا قدروا غفروا».
الصفة الرابعة : قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا) أي : أوجدوا الإجابة لما لهم من العلم الهادي إلى سبيل الرشاد (لِرَبِّهِمْ) أي : الداعي لهم إلى إجابة إحسانه إليهم ، قال الرازي : المراد من هذا تمام الانقياد ، فإن قيل : أليس أنه لما جعل الإيمان فيه شرطا قد دخل في الإيمان إجابة الله
__________________
(١) أخرجه البخاري في المناقب حديث ٣٥٦٠ ، ومسلم في الفضائل حديث ٢٣٢٧ ، وأبو داود في الأدب حديث ٤٧٨٥ ، ومالك في حسن الخلق حديث ٢ ، وأحمد في المسند ٦ / ٣٢ ، ١١٤ ، ١١٦ ، ١٣٠ ، ١٨٢ ، ٢٢٣ ، ٢٣٢ ، ٢٦٢ ، ٢٨١.