(وَجَعَلَها) أي : إبراهيم (كَلِمَةً) أي : التوحيد المفهومة من قوله إنني إلى سيهدين (باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) أي : ذريته فلا يزال فيهم من يوحد الله تعالى لأنه عليهالسلام مجاب الدعوة وقال : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [إبراهيم : ٤٠] (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) [البقرة : ١٢٩] (لَعَلَّهُمْ) أي : أهل مكة (يَرْجِعُونَ) عما هم عليه إلى دين أبيهم فإنهم إذا ذكروا أن أباهم الأعظم الذي بنى لهم البيت وأورثهم الفخر قال ذلك تابعوه قال الله تعالى : (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ) أي : الذين بحضرتك من المشركين وأعداء الدين (وَآباءَهُمْ) أي : مددت لهم في الأعمار مع إسباغ النعم وسلامة الأبدان من البلايا والنقم ولم أعاجلهم بالعقوبة فأبطرتهم نعمتي ، وتمادى بهم ركوب ذلك الباطل (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُ) أي : القرآن (وَرَسُولٌ مُبِينٌ) أي : مظهر لهم الأحكام الشرعية وهو محمد صلىاللهعليهوسلم.
(وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) أي : الكامل في حقيقته بمطابقة الواقع إياها من غير إلباس ولا اشتباه وهو القرآن العظيم (قالُوا) مكابرة وعنادا وحسدا من غير وقفة ولا تأمل (هذا) مشيرين إلى الحق الذي يطابقه الواقع فلا شيء أثبت منه وهو القرآن الكريم (سِحْرٌ) أي : خيال لا حقيقة له (وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) أي : عريقون في ستره بخصوصه حتى لا يعرفه أحد ولا يكون له تابع.
ثم ذكر تعالى نوعا آخر من كفرهم بقوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا) أي : هلا (نُزِّلَ) يعني من المنزل الذي ذكره محمد صلىاللهعليهوسلم وعينوا مرادهم ونفوا اللبس فقالوا : (هذَا الْقُرْآنُ) أي : الذي جاء به محمد صلىاللهعليهوسلم وادعى أنه جامع لكل خير (عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ) أي : مكة والطائف (عَظِيمٍ) لأنهم قالوا : منصب الرسالة منصب شريف لا يليق إلا برجل شريف وصدقوا في ذلك إلا أنهم ضموا إليه مقدمة فاسدة ، وهي : أن الرجل الشريف عندهم هو الذي يكون كثير المال والجاه ، ومحمد صلىاللهعليهوسلم ليس كذلك فلا تليق رسالة الله تعالى به ، وإنما يليق هذا المنصب برجل عظيم الجاه كثير المال يعنون الوليد بن المغيرة بمكة ، وعروة بن مسعود بالطائف ، قال قتادة ، وقال مجاهد : عتبة بن ربيعة من مكة وعبد يا ليل الثقفي من الطائف ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هو الوليد بن المغيرة من مكة ومن الطائف حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي.
تنبيه : قوله تعالى : (مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ) فيه حذف مضاف قدره بعضهم من رجلي القريتين ، وقيل : من إحدى القريتين ، وقيل : المراد عروة بن مسعود الثقفي كان بالطائف وكان يتردد بين القريتين فنسب إلى كليهما.
ثم رد الله تعالى عليهم إعراضهم منكرا عليهم موبخا لهم بما معناه أنه ليس الأمر مردودا ولا موقوفا عليهم بل إلى الله تعالى وحده والله أعلم حيث يجعل رسالاته بقوله تعالى : (أَهُمْ) أي : أهؤلاء الجهلة العجزة (يَقْسِمُونَ) أي : على التجدد والاستمرار (رَحْمَتَ رَبِّكَ) أي : إكرام المحسن إليك وإنعامه وتشريفه أنواع اللطف والبر وإعظامه بما رباك له من تخصيصك بالإرسال إليهم لإنقاذهم من الضلال وجعلك وأنت أفضل العالمين الرسول إليهم ، ففضلوا بفضيلتك مع أنك أشرفهم نسبا وأفضلهم حسبا وأعظمهم عقلا وأصفاهم لبا وأرحمهم قلبا ، ليتصرفوا في تلك الرحمة التي هي روح الوجود وسر الأمر لا يحب شهواتهم ولا يقدرون على التصرف في المتاع الزائل بمثل ذلك كما قال تعالى : (نَحْنُ قَسَمْنا) بما لنا من العظمة (بَيْنَهُمْ) أي : في الأمر الزائل الذي يعمهم ويجب تخصيص كل منهم لما لديه (مَعِيشَتَهُمْ) أي : التي يعدونها رحمة ويقصرون عليهم