وتحسرا لا انتفاع له به لفوات محله وهو دار العمل (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) أي : أيها القرين (بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) أي : ما بين المشرق والمغرب على التغليب قاله ابن جرير وغيره ، أو مشرق الشتاء والصيف أي بعد أحدهما عن الآخر ثم سبب عن هذا التمني قوله جامعا له أنواع المذام (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) والمخصوص بالذم محذوف أي : أنت لأنك الذي قد أضللتني وأوصلتني إلى هذا العيش الضنك والمحل الدحض قال أبو سعيد الخدري : «إذا بعث الكافر زوج بقرينه من الشياطين فلا يفارقه حتى يصيرا إلى النار».
وفي فاعل قوله تعالى : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ) قولان أحدهما : أنه ملفوظ به وهو أنكم وما في حيزها والتقدير : ولن ينفعكم اشتراككم في العذاب بالتأسي كما ينفعكم الاشتراك في مصائب الدنيا فيتأسى المصاب بمثله ومنه قول الخنساء (١) :
ولو لا كثرة الباكين حولي |
|
على موتاهم لقتلت نفسي |
وما يبكون مثل أخي ولكن |
|
أعزي النفس عنه بالتأسي |
والثاني : أنه مضمر فقدره بعضهم ضمير التمني المدلول عليه بقوله : (يا لَيْتَ بَيْنِي) أي : لن ينفعكم تمنيكم البعد وبعضهم اجتماعكم وبعضهم ظلمكم وجحدكم ، وعبارة من عبر بأن الفاعل محذوف مقصوده الإضمار المذكور لا الحذف إذ الفاعل لا يحذف إلا في مواضع ليس هذا منها والمعنى : ولن ينفعكم اليوم في الآخرة (إِذْ ظَلَمْتُمْ) أي : أشركتم في الدنيا (أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) أي : لا ينفعكم الاشتراك في العذاب ولا يخفف الاشتراك عنكم لأن لكل واحد من الكفار والشياطين الحظ الأوفر من العذاب كما كنتم تشتركون في الدنيا.
تنبيه : استشكل المعربون هذه الآية ووجهه أن قوله تعالى : (الْيَوْمَ) ظرف حالي وإذ ظرف ماضي وينفعكم مستقبل لاقترانه بلن التي لنفي المستقبل ، والظاهر أنه عامل في الظرفين وكيف يعمل الحدث المستقبل الذي لم يقع إلا بعد في ظرف حالي وماض هذا مما لا يجوز؟ أجيب : عن أعماله في الظرف الحالي على سبيل قربه منه لأن الحال قريب من الاستقبال فيجوز في ذلك قال تعالى : (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) [الجن : ٩] وقال الشاعر (٢) :
سأسعى الآن إذ بلغت أباها |
|
وهو إقناعي وإلا فالمستقبل. |
يستحيل وقوعه في الحال عقلا وأما قوله تعالى : (إِذْ) ففيها للناس أوجه كثيرة قال ابن جني : راجعت أبا علي فيها مرارا كثيرة فآخر ما حصلت منه أن الدنيا والآخرة متصلتان وهما سواء في حكم الله تعالى وعلمه ، فإذ بدل من اليوم حتى كأنها مستقبلة أو كان اليوم ماض وإلى هذا نحا الزمخشري قال : وإذ بدل من اليوم ، وحمل الزمخشري على معنى إذ تبين وصح ظلمكم ولم يبق لأحد ولا لكم شبهة في أنكم كنتم ظالمين ونظيره (٣) :
__________________
(١) البيتان من الوافر ، وهما في ديوان الخنساء ص ٧٠ (طبعة دار القلم) ، والبيت الثاني بلا نسبة في المخصص ١٦ / ٢٢.
(٢) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.
(٣) عجزه :
ولم تجدي من أن تقري بها بدّا
والبيت من الطويل ، وهو لزائد بن صعصعة الفقعسي في حاشية الأمير على المغني ١ / ٢٥ ، وبلا نسبة في جواهر الأدب ص ٢٠٥ ، وشرح شذور الذهب ص ٤٤٠ ، وشرح شواهد المغني ص ٨٩.