قال البقاعي : ولا يبعد أن يكون ما صار إليه الفسقة والجبابرة من زخرفة الأبنية وتذهيب السقوف وغيرها من مبادي الفتنة بأن يكون الناس أمة واحدة في الكفر قرب الساعة حتى لا تقوم الساعة على من يقول : الله ، أو في زمن الدجال لأن من يبقى إذ ذاك على الحق في غاية القلة بحيث إنه لا عداد لهم في جانب الكفرة لأن كلام الملوك لا يخلو عن حقيقة وإن خرج مخرج الشرط فيكف بملك الملوك سبحانه.
فإن قيل : لم بين تعالى أنه لو فتح على الكافر أبواب النعم لصار ذلك سببا لاجتماع الناس على الكفر فلم لم يفعل ذلك بالمسلمين حتى يصير سببا لاجتماع الناس على الإسلام؟ أجيب : بأن الناس على هذا التقدير كانوا يجتمعون على الإسلام لطلب الدنيا وهذا الإيمان إيمان المنافقين فاقتضت الحكمة أن لا يجعل ذلك للمسلمين حتى أن كل من دخل في الإسلام يدخل لمتابعة الدليل ولطلب رضوان الله تعالى.
(وَمَنْ يَعْشُ) أي : يعرض (عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) أي : الذي عمت رحمته فلا رحمة على أحد إلا وهي منه تعالى كما فعل هؤلاء حين متعناهم وأباءهم حتى أبطرهم ذلك وهو شيء يسير جدا ، فأعرضوا عن الآيات والدلائل فلم ينظروا فيها إلا نظرا ضعيفا كنظر من عشا بصره وهو من ساء بصره بالليل والنهار (نُقَيِّضْ) أي : نسبب (لَهُ) عقابا على إعراضه عن ذكر الله تعالى (شَيْطاناً) أي : شخصا ناريا بعيدا من الرحمة يكون غالبا عليه محيطا به مثل قيض البيضة وهو القشر الداخل (فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) أي : مشدود به لا يفارقه فلا يمكنه التخلص منه ما دام متعاميا عن ذكر الله تعالى ، فهو يزين له العمى ويخيل إليه أنه على عين الهدى كما أن من يستبصر بذكر الرحمن يسخر له ملك فهو له ولي يثيره إلى كل خير ، فذكر الله تعالى حصن حصين من الشيطان الرجيم متى خرج العبد منه أسره العدو كما ورد في الحديث» (١).
(وَإِنَّهُمْ) أي : القرناء (لَيَصُدُّونَهُمْ) أي : العاشين (عَنِ السَّبِيلِ) أي : الطريق الذي من حاد عنه هلك لأنه لا طريق له في الحقيقة سواه (وَيَحْسَبُونَ) أي : العاشون مع سيرهم في المهالك لتزيين القرناء بإحضار الحظوظ والشهوات وإبعاد المواعظ (أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) أي : غريقون في هذا الوصف لما يستدرجون به من التوسعة عليهم والتضييق على الذاكرين.
تنبيه : ذكر الإنسان والشيطان بلفظ الجمع لأن قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً) فهو له قرين يفيد : الجمع وإن كان اللفظ على الواحد ، قال أبو حيان : الظاهر أن ضميري النصب في وأنهم ليصدونهم : عائدان على من من حيث معناها وأما لفظها أولا فأفراد في له وله ثم راعى معناها فجمع في قوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ) والضمير المرفوع على الشيطان لأن المراد به الجنس ولأن كل كافر معه قرينه ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة : بفتح السين والباقون بكسرها.
وقرأ : (حَتَّى إِذا جاءَنا) نافع وابن عامر وأبو بكر : بمد الهمزة بعد الجيم على التثنية أي : جاء العاشي والشيطان ، والباقون بغير مد إفراد أي : جاء العاشي (قالَ) أي : العاشي تندما
__________________
(١) في الحديث أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : « ... وآمركم أن تذكروا الله فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدوّ في أثره سراعا حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم ، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلّا بذكر الله ...» أخرجه الترمذي في الأمثال حديث ٢٨٦٣.