وأحكمهم (لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) أي : لتؤتاه وتلقنه أي : يلقى عليك بشدّة (مِنْ لَدُنْ) أي : من عند (حَكِيمٍ) أي : بالغ الحكمة فلا شيء من أفعاله إلا وهو في غاية الإتقان (عَلِيمٍ) أي : عظيم العلم واسعه تامّه شامله ، والجمع بينهما مع أنّ العلم داخل في الحكمة لعموم العلم ودلالة الحكمة على إتقان الفعل ، والإشعار بأنّ علوم القرآن منها : ما هو كالعقائد والشرائع ، ومنها : ما ليس كذلك كالقصص والأخبار عن المغيبات.
ثم شرع في بيان تلك العلوم بقوله تعالى : (إِذْ قالَ مُوسى) أي : اذكر قصته حين قال (لِأَهْلِهِ) أي : زوجته بنت شعيب عليهالسلام عند مسيره من مدين إلى مصر وهي القصة الأولى من قصص هذه السورة ، قال الزمخشريّ : روي أنه لم يكن مع موسى عليهالسلام غير امرأته ، وقد كنى الله تعالى عنها بالأهل فتبع ذلك ورود الخطاب على لفظ الجمع وهو قوله : امكثوا ، وكانا يسيران ليلا وقد اشتبه الطريق عليهما والوقت وقت برد ، وفي مثل هذا الحال يقوى الناس بمشاهدة نار من بعد ، لما يرجى فيها من زوال الحيرة وأمن الطريق ومن الانتفاع بالنار للاصطلاء ، فلذلك بشرها فقال : (إِنِّي آنَسْتُ) أي : أبصرت إبصارا حصل لي به الأنس وأزال عني الوحشة (ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) أي : عن حال الطريق وكان قد أضلها ، وعبر بلفظ الجمع كما في قوله : (امْكُثُوا) فإن قيل : كيف جاء بسين التسويف؟ أجيب : بأنّ ذلك عدة لأهله أنه يأتيهم به وإن أبطأ الإتيان أو كانت المسافة بعيدة ، فإن قيل : قال هنا (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) وفي السورة الآتية : (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) [القصص : ٢٩] وهما كالمتدافعين لأنّ أحدهما ترج والآخر تيقن؟ أجيب : بأنّ الراجي قد يقول إذا قوي رجاؤه سأفعل كذا وسيكون كذا مع تجويزه الحقيقة.
(أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ) أي : شعلة نار في رأس فتيلة أو عود ، قال البغويّ : وليس في الطرف الآخر نار ، وقال بعضهم الشهاب شيء ذو نور مثل العمود والعرب تسمي كل شيء أبيض ذي نور شهابا ، والقبس : القطعة من النار ، وقرأ الكوفيون بشهاب بالتنوين على أنّ القبس بدل منه أو وصف له لأنه بمعنى المقبوس ، والباقون بإضافة الشهاب إليه لأنه يكون قبسا وغير قبس فهو من إضافة النوع إلى جنسه ، نحو ثوب خز إذ الشهاب شعلة من النار والقبس قطعة منها يكون في عود أو غيره كما مرّ.
فإن قيل : لم جاء بأو دون الواو؟ أجيب : بأنه بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه جميعا لم يعدم واحدة منهما ، إمّا هداية الطريق وإمّا اقتباس النار ثقة بعادة الله أنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده ، وما أدراه حين قال ذلك أنه ظافر على النار بحاجتيه الكليتين جميعا وهما العزان عز الدنيا وعز الآخرة ، ثم إنه عليهالسلام علل إتيانه بذلك إفهاما لأنها ليلة باردة بقوله : (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي : لتكونوا في حال من يرجى أن يستدفئ بذلك من البرد ، والطاء بدل من تاء الافتعال ، من صلى بالنار بكسر اللام وفتحها.
(فَلَمَّا جاءَها) أي : تلك التي ظنها نارا (نُودِيَ) من قبل الله تعالى (أَنْ بُورِكَ) أن هي المفسرة لأنّ النداء فيه معنى القول ، والمعنى قيل له : بورك ، أو المصدرية أي : بأن بورك ، وقوله تعالى : (مَنْ فِي النَّارِ) أي : موسى (وَمَنْ حَوْلَها) أي : الملائكة هو نائب الفاعل لبورك ، والأصل بارك الله من في النار ومن حولها ، وهذا تحية من الله عزوجل لموسى بالبركة.
ومذهب أكثر المفسرين أنّ المراد بالنار النور ذكر بلفظ النار لأنّ موسى حسبه نارا ، أو من