وعرفا : صرف العبد جميع ما أنعم الله تعالى به عليه من السمع وغيره إلى ما خلق لأجله ، وهذا لمن حفته العناية الربانية نسأل الله الكريم الفتاح أن يحفنا ومن يلوذ بنا بعنايته.
روي عن داود عليهالسلام أنه قال : يا رب كيف أشكرك والشكر نعمة أخرى منك أحتاج عليها إلى شكر آخر؟ فأوحى الله تعالى إليه يا داود إذا علمت أنّ ما بك من نعمة فمني فقد شكرتني. والشكر ثلاثة أشياء : الأول : معرفة النعمة بمعنى إحضارها في الخاطر بحيث يتميز عندك أنها نعمة ، فرب جاهل تحسن إليه وتنعم عليه وهو لا يدري ، فلا جرم أنه لا يصح منه الشكر ، الثاني : قبول النعمة بتلقيها من المنعم بإظهار الفقر والفاقة ، فإنّ ذلك شاهد بقبولها حقيقة ، الثالث : الثناء بها بأن تصف المنعم بالجود والكرم ونحوه مما يدل على حسن تلقيك لها واعترافك بنزول مقامك في الرتبة عن مقامه ، فإنّ اليد العليا خير من اليد السفلى.
ولما علم من كلامه أن الشاكر هو المستغرق في الثناء على المنعم بما يجب عليه من العمل بحسب ما يقدر عليه ، وكان ذلك العمل مما يجوز أن يكون زين لذلك العبد كونه حسنا وهو ليس كذلك قال عليهالسلام : مشيرا إلى هذا المعنى (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً) أي : في نفس الأمر ، وقيده بقوله (تَرْضاهُ) لأنّ العمل الصالح قد لا يرضاه المنعم لنقص في العامل ، كما قيل (١) :
إذا كان المحب قليل حظ |
|
فما حسناته إلا ذنوب |
وقوله (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) يدل على أنّ دخول الجنة برحمته وفضله لا باستحقاق العبد ، والمعنى : أدخلني في جملتهم وأثبت اسمي في أسمائهم واحشرني في زمرتهم ، قال ابن عباس : يريد مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم من النبيين ، فإن قيل : درجات الأنبياء أفضل من درجات الصالحين والأولياء فما السبب في أنّ الأنبياء يطلبون جعلهم من الصالحين وقد تمنى يوسف عليهالسلام بقوله (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف : ١٠١] وقال إبراهيم : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [الشعراء ، ٨٣].
أجيب : بأنّ الصالح الكامل هو الذي لا يعصي الله تعالى ولا يفعل معصية ولا يهم بمعصية وهذه درجة عالية.
ثم إنّ سليمان عليهالسلام لما وصل إلى المنزل الذي قصده تفقد أحوال جنوده كما تقتضيه العناية بأمور الملك. (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ) أي : طلبها وبحث عنها ، والتفقد طلب ما فقد ، ومعنى الآية طلب ما فقد من الطير (فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) أي : أهو حاضر (أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) أم منقطعة ، كأنه لما لم يره ظنّ أنه حاضر ولم يره لساتر أو غيره ، فقال ما لي لا أراه ، ثم احتاط فلاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول : أهو غائب؟ كأنه يسأل عن صحة ما لا ح له ، وهذا يدل على أنه تفقد جماعة من الجند وتحقق غيبتهم وشك في غيبته.
وكان سبب غيبة الهدهد على ما ذكره العلماء : أن سليمان لما فرغ من بناء بيت المقدس عزم على الخروج إلى أرض الحرم فتجهز للمسير واستصحب من الجنّ والإنس والشياطين والطيور والوحوش ما بلغ عسكره مائة فرسخ فحملتهم الريح فلما وافى الحرم أقام به ما شاء الله أن يقيم
__________________
(١) البيت لم أجده.