صادِقِينَ) يعني في دعواكم. ومعنى الآية أن الكفار كانوا إذا نزل بهم شدة وبلاء رجعوا إلى الله بالتضرع والدعاء وتركوا الأصنام فقيل لهم : أترجعون إلى الله في حال الشدة والبلاء ولا تعبدونه ولا تطيعونه في حال اليسر والرخاء؟ (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) يعني بل تدعون الله ، ولا تدعون غيره في كشف ما نزل بكم (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ) يعني فيكشف الضر الذي من أجله دعوتموه وإنما قيد الإجابة بالمشيئة رعاية للمصلحة وإن كانت الأمور كلها بمشيئة الله تعالى : (وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) يعني : وتتركون دعاء الأصنام التي تعبدونها فلا تدعونها لعلمكم أنها لا تضر ولا تنفع وقيل معناه أنكم في ترككم دعاء الأصنام بمنزلة من قد نسيها ؛ وهذا معنى قول الحسن لأنه قال وتعرضون عنها إعراض الناسي لها.
قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) في الآية محذوف والتقدير ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك يا محمد رسلا فخالفوهم وكفروا وحسن هذا الحذف لكونه معلوما عند السامع (فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ) يعني بالفقر الشديد وأصله من البؤس وهو الشدة والمكروه وقيل : البأساء ، شدة الجوع (وَالضَّرَّاءِ) يعني الأمراض والأوجاع والزمانة (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) يعني يخضعون ويتوبون والتضرع التخشع والتذلل والانقياد وترك التمرد وأصله من الضراعة وهي الذلة. ومقصود الآية ، أن الله تعالى أعلم نبيه صلىاللهعليهوسلم أنه قد أرسل من قبله رسلا إلى أقوام بلغوا في القسوة إلى أن أخذوا بالبأساء والضراء وهي الشدة في النفس والمال فلم يخضعوا ولم يتضرعوا ففيه تسلية للنبي صلىاللهعليهوسلم (فَلَوْ لا) يعني فهلا (إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) معناه نفي التضرع فلم يتضرعوا (وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) يعني ولكن غلظت قلوبهم فلم تضرع ولم تخشع بل أقاموا على كفرهم وتكذيبهم رسلهم (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) يعني من الكفر والتكذيب وتزيين الشيطان إغواؤه بما في المعصية من اللذة. قال ابن عباس : يريد زين الشيطان الضلالة التي كانوا عليها فأصروا على معاصي الله عزوجل.
(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦))
قوله عزوجل : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) أي تركوا ما وعظوا به وقيل تركوا العمل بما أمرتهم به الرسل وإنما كان النسيان بمعنى الترك لأن التارك للشيء معرضا عنه كأنه قد صيره بمنزلة ما قد نسي (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) يعني بدلنا مكان البأساء والرخاء والسعة في الرزق والعيش ومكان الضراء الصحة والسلامة في الأبدان والأجسام وذلك استدراج منه لهم. وقيل : فتحنا عليهم أبواب كل شيء من الخير كان مغلقا عنهم (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا) يعني فرحوا بما أوتوا من السعة والرخاء والصحة في الأبدان والمعيشة وظنوا أن ما كان نزل بهم من الشدة لم يكن انتقاما من الله تعالى فإنهم لما فتح الله عليهم ما فتح من الخير والسعة فرحوا به وظنوا أن ذلك باستحقاقهم وهذا فرح بطر كما فرح قارون بما أوتي من الدنيا (أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) يعني جاءهم عذابنا فجأة من حيث لا يشعرون قال الحسن مكر بالقوم ورب الكعبة ، وقال أهل المعاني : إنما أخذوا في حال الرخاء والسلامة ليكون أشد لتحسرهم على ما فاتهم من حال السلامة والعافية والتصرف في ضروب اللذة ، فأخذناهم في آمن ما كانوا وأعجب ما كانت الدنيا إليهم (فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) أي آيسون من كل خير ، وقال الفراء المبلس اليائس المنقطع رجاؤه ولذلك يقال لمن يسكت عند انقطاع حجته ولا يكون له جواب قد أبلس وقال الزجاج المبلس الشديد الحزن والحسرة وقال أبو عبيدة المبلس النادم والحزين والإبلاس هو الإطراق من الحزن والندم روى عقبة بن عامر أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال «إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته فإنما ذلك