قوله تعالى (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ) أي تلك الظلمات (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) أي من الكروب إذا دعونا واستغاثوا بنا. فإن قلت قد تمسك بمواضع من هذه القصة من أجاز وقوع الذنب من الأنبياء منها قوله (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) ومنها (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) ومنها قوله (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) قلت أما الجواب الكلي فقد اختلفوا في هذه الواقعة هل كانت قبل الرسالة أم لا؟ فقال ابن عباس : كانت رسالته بعد أن أخرجه الله من بطن الحوت بدليل قوله تعالى في الصافات بعد ذكر خروجه (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) فثبت بهذا أن هذه الواقعة كانت قبل النبوة وقد أجاز بعضهم عليه الصغائر قبل النبوة ومنعها بعد النبوة وهو الصحيح. وأما الجواب التفصيلي لقوله إذ ذهب مغاضبا فحمله على أنه لقومه أو للملك أولى بحال الأنبياء وأما قوله (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) فقد تقدم معناه أي لن نضيق عليه وذلك أن يونس ظن أنه مخير إن شاء أقام وإن شاء خرج. وإن الله تعالى لا يضيق عليه في اختياره وقيل هو من القدر لا من القدرة وأما قوله (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) فالظلم وضع الشيء في غير موضعه وهذا اعتراف عند بعضهم بذنبه فإما أن يكون لخروجه عن قومه بغير إذن ربه أو لضعفه عما حمله ، أو لدعائه بالعذاب على قومه وفي هذه الأشياء ترك الأفضل مع قدرته على تحصيله فكان ذلك ظلما. وقيل كانت رسالته قبل هذه الواقعة بدليل قوله (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) فعلى هذا يكون الجواب عن هذه الواقعة ما تقدم من التفصيل والله أعلم.
قوله عزوجل (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ) أي دعا ربه فقال (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً) أي وحيدا لا ولد لي يساعدني وارزقني وارثا (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) هو ثناء على الله بأنه الباقي بعد فناء الخلق وأنه الوارث لهم وهذا على سبيل التمثيل والمجاز فهو كقوله وأنت خير الرازقين (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى) أي ولدا (وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) أي جعلناها ولودا بعد ما كانت عقيما وقيل كانت سيئة الخلق فأصلحها الله تعالى له بأن رزقها حسن الخلق (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) يعني الأنبياء المذكورين في هذه السورة. وقيل زكريا وأهل بيته ، والمسارعة في الخيرات من أكبر ما يمدح به المرء لأنها تدل على حرص عظيم في طاعة الله عزوجل (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) يعني أنهم ضموا إلى فعل الطاعات أمرين : أحدهما : الفزغ إلى الله لمكان الرغبة في ثوابه والرهبة من عقابه. والثاني : الخشوع وهو قوله تعالى (وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) الخشوع هو الخوف اللازم للقلب فيكون الخاشع هو الحذر الذي لا ينبسط في الأمور خوفا من الوقوع في الإثم. قوله تعالى (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) أي إحصانا كليا من الحلال والحرام جميعا كما قالت (لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) وهي مريم بنت عمران (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) أمرنا جبريل حتى نفخ في جيب درعها فخلقنا بذلك النفخ المسيح في بطنها ، وأضاف الروح إليه تشريفا لعيسى كبيت الله وناقة الله (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً) أي دلالة (لِلْعالَمِينَ) على كمال قدرتنا على خلق ولد من غير أب ، فان قلت هما آيتان فكيف قال آية؟. قلت معنى الكلام وجعلنا شأنهما وأمرهما آية واحدة أي ولادتها إياه من غير أب آية. قوله تعالى (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ) أي ملتكم ودينكم (أُمَّةً واحِدَةً) أي دينا واحدا وهو الإسلام فأبطل ما سوى الإسلام من الأديان والأمة الجماعة التي هي على مقصد واحد ، وجعلت الشريعة أمة لاجتماع أهلها على مقصد واحد (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) أي لا دين سوى ديني ولا رب لكم غيري فاعبدوني أي وحدوني.
(وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧) إِنَّكُمْ وَما