فشق عليها ذلك وكادت تقول هو ابني وقيل كادت تبدي بالوحي الذي أوحى الله إليها (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) أي بالعصمة والصبر والتثبت (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي من المصدقين بوعد الله إياها (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ) أي لمريم أخت موسى (قُصِّيهِ) أي اتبعي أثره حتى تعطي خبره (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) أي عن بعد قيل كانت تمشي جانبا وتنظره اختلاسا ترى أنها لا تنظره (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أنها أخته وأنها ترقبه (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ) المراد به المنع قيل مكث موسى ثمان ليال لا يقبل ثديا قال ابن عباس إن امرأة فرعون كان همها من الدنيا أن تجد من ترضعه كلما أتوا بمرضعة لم يأخذ ثديها وهم في طلب من يرضعه لهم (مِنْ قَبْلُ) أي قبل مجيء أم موسى وذلك لما رأته أخت موسى التي أرسلتها أمه في طلب ذلك (فَقالَتْ) يعني أخت موسى (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ) أي يضمونه ويرضعونه وهي امرأة قتل ولدها فأحب ما تدعى إليه أن تجد صغيرا ترضعه (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) أي لا يمنعونه ما ينفعه من تربيته وغذائه والنصح إخلاص العمل من شوائب الفساد. قيل لما قالت : وهم له ناصحون قالوا : إنك قد عرفت هذا الغلام فدلينا على أهله قالت ما أعرفه ولكن قلت وهم للملك ناصحون وقيل : إنها قالت إنما قلت ذلك رغبة في سرور الملك واتصالنا به. وقيل قالوا من هم قالت أمي قالوا ولأمك ولد قالت نعم هارون وكان هارون ولد في السنة التي لا يقتل فيها قالوا صدقت فأتينا بها فانطلقت إليها وأخبرتها بحال ابنها وجاءت بها إليهم فلما وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها وجعل يمصه حتى امتلأ جنباه ريا قيل كانوا يعطونها كل يوم دينارا فذلك قوله تعالى :
(فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨))
(فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) أي برد موسى إليها (وَلا تَحْزَنَ) أي لئلا تحزن (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي برده إليها (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن الله وعدها أن يرده إليها (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) قيل الأشد ما بين ثمانية عشر إلى ثلاثين سنة وقيل الأشد ثلاث وثلاثون سنة (وَاسْتَوى) أي بلغ أربعين سنة قاله ابن عباس : وقيل انتهى شبابه وتكامل (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) أي عقلا وفهما في الدين فعلم وحكم موسى قبل أن يبعث نبيا (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) قوله تعالى (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ) يعني موسى والمدينة قيل هي منف من أعمال مصر وقيل هي قرية يقال لها حابين على رأس فرسخين من مصر وقيل هي مدينة شمس (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) قيل هي نصف النهار واشتغال الناس بالقيلولة وقيل دخلها ما بين المغرب والعشاء وقيل سبب دخول المدينة في ذلك الوقت أن موسى كان يسمى ابن فرعون وكان يركب في مراكب فرعون ويلبس لباسه فركب فرعون يوما وكان موسى غائبا فلما جاء قيل له إن فرعون قد ركب فركب موسى في أثره فأدركه المقيل بأرض منف فدخلها وليس في أطرافها أحد. وقيل كان لموسى شيعة من بني إسرائيل يسمعون منه ويقتدون به فلما عرف ما هو عليه من الحق رأى فراق فرعون وقومه فخالفهم في دينه حتى أنكروا ذلك منه وخافوه وخافهم فكان لا يدخل قرية إلا خائفا مستخفيا على حين غفلة من أهلها.