فذلك قوله تعالى وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال واستبعد العلماء هذه الحكاية وقال : إن الخطر فيه عظيم ولا يكاد عاقل أن يقدم على مثل هذا الأمر العظيم وليس فيه خير صحيح يعتمد عليه ، ولا مناسبة لهذه الحكاية بتأويل الآية البتة (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) يعني فلا تحسبن الله يا محمد مخلف ما وعد به رسله من النصر وإعلاء الكلمة ، وإظهار الدين فإنه ناصر رسله وأوليائه ومهلك أعدائه ، وفيه تقديم وتأخير تقديره ولا تحسبن الله مخلف رسله وعده (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أي غالب (ذُو انتِقامٍ) يعني من أعدائه قوله عزوجل (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) ذكر المفسرون في معنى هذا التبديل قولين أحدهما أنه تبديل صفة الأرض والسماء لا ذاتهما فأما تبديل الأرض فبتغيير صفتها وهيئتها مع بقاء ذاتها وهو أن تدك جبالها وتسوى وهادها وأوديتها ، وتذهب أشجارها وجميع ما عليها من عمارة وغيرها لا يبقى على وجهها شيء إلا ذهب ، وتمد مد الأديم وأما تبديل السماء فهو أن تنتثر كواكبها وتطمس شمسها ، وقمرها ويكوران كونها تارة كالدهان ، وتارة كالمهل وبهذا القول قال جماعة من العلماء : ويدل على صحة هذا القول ما روي عن سهل بن سعيد قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس بها علم لأحد» أخرجاه في الصحيحين العفراء بالعين المهملة ، وهي البيضاء إلى الحمرة ولهذا شبهها بقرصة النقي ، وهو الخبز الجيد البياض الفائق المائل إلى حمرة كأن النار ميلت بياض وجهها إلى الحمرة وقوله : ليس بها علم لأحد يعني ليس فيها علامة لأحد بتبديل هيئتها ، وزوال جبالها وجميع بنائها فلا يبقى فيها أثر يستدل به والقول الثاني : هو تبديل ذوات الأرض والسماء وهذا قول جماعة من العلماء ، ثم اختلفوا في معنى هذا التبديل فقال ابن مسعود في معنى هذه الآية قال : تبدل الأرض بأرض كالفضة بيضاء نقية لم يسفك بها دم ، ولم يعمل عليها خطيئة. وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : الأرض من فضة والسماء من ذهب. وقال أبيّ بن كعب في معنى التبديل : بأن تصير الأرض نيرانا والسماء جنانا وقال أبو هريرة وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه عن أبي سعيد الخدري قال. قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة» أخرجاه في الصحيحين بزيادة فيه. قال الشيخ محيي الدين النووي في شرح هذا الحديث : أما النزل فبضم النون والزاي ويجوز إسكان الزاي وهو ما يعد للضيف عند نزوله وأما الخبزة فبضم الخاء. وقال أهل اللغة : هي الظلمة التي توضع في الملة يتكفؤها بالهمزة بيده أي يميلها من يد إلى يد حتى تجتمع وتسوى لأنها ليست منبسطة كالرقاقة ، وقد حققنا الكلام في اليد في حق الله سبحانه وتعالى وتأويلها مع القطع باستحالة الجارحة عليه ليس كمثله شيء ، ومعنى الحديث أن الله سبحانه وتعالى ، يجعل الأرض كالظلمة أي الرغيف العظيم وتكون طعاما نزلا لأهل الجنة والله على كل شيء قدير. فإن قلت : إذا فسرت التبديل بما ذكرت فكيف يمكن الجمع بينه وبين قوله تعالى (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) وهو أن تحدث أخبارها ، وهو أن تحدث بكل ما عمل عليها ، قلت : وجه الجمع بين الآيتين أن الأرض تبدل أولا صفتها مع بقاء ذاتها كما تقدم فيومئذ تحدث أخبارها ثم بعد ذلك تبدل تبديلا ثانيا ، وهو أن تبدل ذاتها بغيرها كما تقدم أيضا ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن عائشة قالت سألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن قوله تعالى (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله فقال : «على الصراط» أخرجه مسلم وروى ثوبان أن حبرا من اليهود سأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض قال : «هم في الظلمة دون الجسر» ذكره البغوي بغير سند ، ففي هذين الحديثين دليل على أن تبديل الأرض ثاني مرة يكون بعد الحساب والله أعلم بمراده وأسرار كتابه. وقوله تعالى (وَبَرَزُوا) يعني وخرجوا من قبورهم (لِلَّهِ) يعني لحكم الله ، والوقوف بين يديه للحساب (الْواحِدِ الْقَهَّارِ) صفتان لله تعالى فالواحد الذي لا ثاني له ، ولا شريك معه المنزه عن الشبه والضد والند والقهار الذي يقهر عباده على ما يريد ، ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. قوله تعالى :