قوله تعالى : (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ ؛) أي كم من قرية أهلكناها بالعذاب بكفرهم. وقرى أهلكناها ، والاختيار أهلكتها بالتاء لقوله (فَأَمْلَيْتُ) ، قوله : (فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ؛) أي ساقطة على سقوفها ، وذلك أن السّقف يقع قبل الحيطان ، ثم تقع الحيطان عليه ، قوله تعالى : (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ ؛) أي كم بئر عطلها أربابها وكم من (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) (٤٥) ؛ عطّله أهله. والمشيد هو المجصّص ، والشّيد الجصّ والنّورة ، ويجوز أن يكون معنى المشيد الرفيع ، يقال : شاد البناء وأشاده إذا أطلاه بالشّيد.
قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها ؛) أي أفلم يسر قومك يا محمّد في أرض اليمن والشّام ؛ لينظروا آثار المهلكين ، فيعقلوا بقلوبهم ما نزل بمن كذب من قبلهم ، ويسمعوا بآذانهم خبر الأمم المكذّبة. قوله تعالى : (فَتَكُونَ لَهُمْ) نصب على جواب الجحد.
قوله تعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ ؛) الهاء في قوله (فَإِنَّها) عماد ، وهو إضمار على شريطة التفسير ، والمعنى : فإنّ الأبصار لا تعمى ؛ أي يرون بأبصارهم ، (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٤٦) ؛ قلوبهم بذهابها عن إدراك الحقّ بما يؤدّي إليه الدليل.
وفي الآية دليل أنّ العقل في القلب بخلاف ما قاله الفلاسفة والأطباء : أن محلّ العقل الرأس الدماغ ؛ لأن العقل لو لم يكن في القلب لم يوصف القلب بأن يعمى ، كما لا توصف بذلك اليد والرّجل ، وأما وصف القلوب بأنّها في الصّدور فعلى وجه التأكيد ، كما في قوله تعالى (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ)(١) ، وقوله تعالى (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ)(٢).
قوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ ؛) أي ويستعجلونك يا محمّد بالعذاب ، كما قالوا : (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ)(٣) ،
__________________
(١) آل عمران / ١٦٧.
(٢) الأنعام / ٣٨.
(٣) الشعراء / ١٨٧.