علمي بالاستدلال علما بالمعاينة ، وهو عين اليقين ، وإنما استفهمه الله تعالى مع أنه كان عالما بايمانه ، لأنه أراد بسؤاله عنه أن يظهر إيمانه لكل سامع بقوله «بلى» (قالَ) الله إن ترد رؤية ذلك (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) ديكا وطاووسا وغرابا وحمامة (فَصُرْهُنَّ) بضم الصاد أي قطعهن وبكسر الصاد (١) ، أي أمهلن بمعنى اضممهن (إِلَيْكَ) لتعرف أشكالها لئلا يلتبس (٢) عليك بعد عودها إليك ، ثم اقطع رؤوسهن (٣) ، وقطعهن بحيث يختلط لحمهن بعضه ببعض ، ثم جزئهن سبعة أجزاء (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ) من جبال أرضك وكانت سبعة ، وقيل : «كانت أربعة ، فجزأها أربعة أجزاء» (٤) ، فقال تعالى : ضع على كل جبل (مِنْهُنَّ) أي من كل تلك الطيور (٥)(جُزْءاً) بضم الزاء وسكونها (٦)(ثُمَّ ادْعُهُنَّ) أي قل لهن تعالين باذن الله (يَأْتِينَكَ سَعْياً) أي مشيا سريعا على أرجلهم ، وهو مصدر مؤكد أو حال بمعنى ساعيات ، ففعل كما أمره فعاد كل جزء إلى جسده ، ثم آتين إلى رؤوسهن لئلا يتوهم أنها غير تلك الطيور ، فوصلت برؤوسهن فعادت كما كانت ، وجعل إبراهيم ينظر ويتعجب حيث ينضم بعضها إلى بعض ويتشكل كل طير على شكله الأول ، ثم قال تعالى عند ذلك (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أي غالب بالانتقام عمن لم يؤمن (حَكِيمٌ) [٢٦٠] يفعل كل شيء بالحكمة والاتقان.
(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١))
ثم حث المؤمنين بأنه عزيز حكيم على الإنفاق والتصدق في سبيله تحقيقا للإيمان في قلوبهم بالثواب وتخليصا لنفوسهم عن العذاب بقوله (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي مثل نفقات المنفقين في طاعته (كَمَثَلِ حَبَّةٍ) لزراع (٧) زرعها في أرض عامرة (أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) فرضا وتقديرا ، والمنبت هو الله ولكنها سبب الإنبات ، أي خرجت سبع شعب من أصلها لجودة الحب وحذاقة الزارع وعمارة الموضع ، وضع جمع الكثرة موضع جمع القلة ، وهو سنبلات (فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) فيكون (٨) جملتها سبع مائة حبة ، فكذلك المتصدق الصالح بالمال الصالح إذا أعطاه من يستحقه باذن الشرع يعطيه الله بكل صدقة سبع مائة حسنة أو أكثر (وَاللهُ يُضاعِفُ) بالألف من المضاعفة وبالتشديد (٩) من التضعيف أي يزيد الثواب (لِمَنْ يَشاءُ) من المنفقين لا لكل منفق لتفاوت الأحوال بينهم (وَاللهُ واسِعٌ) أي واسع الفضل لتلك الأضعاف (عَلِيمٌ) [٢٦١] بإنفاقهم ونياتهم.
(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣))
ثم بين لهم طريق الإنفاق في سبيله لنيل ثوابه فقال (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي يتصدقونها في مواضعها (ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا) فيها (مَنًّا) أي لا يمنون عليهم بما تصدقوا بأن يقول المتصدق المان : اصطنعتك كذا خيرا و (١٠) أحسنت إليك كثيرا (وَلا أَذىً) أي ولا يؤذونهم بأن يقول المتصدق المؤذي : إني قد أعطيتك ،
__________________
(١) «فصرهن» : قرأ حمزة وخلف وأبو جعفر ورويس بكسر الصاد ويلزمه ترقيق الراء ، الباقون بضم الصاد ويلزمه تفخيم الراء. البدور الزاهرة ، ٥٤.
(٢) يلتبس ، س م : تلتبس ، ب.
(٣) رؤوسهن ، ب م : رأسهن ، س.
(٤) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ١ / ٣٧٦.
(٥) أي من كل تلك الطيور ، م : أي من تلك الطيور ، ب س.
(٦) «جزءا» : قرأ شعبة بضم الزاي ، وأبو جعفر بحذف همزته وتشديد زايه ، والباقون باسكان الزاي وبالهمزة ٥* عيون التفاسير ـ ١ منونا ولحمزة وقفا نقل حركة الهمزة إلي الزاي مع حذف الهمزة وإبدال التنوين ألفا. البدور الزاهرة ، ٥٤.
(٧) لزراع ، ب س : أي كزراع ، م.
(٨) فيكون ، ب م : فتكون ، س ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٢٢٨.
(٩) «يضاعف» : قرأ المكي والشامي وأبو جعفر ويعقوب بتشديد العين وحذف الألف ، والباقون بتخفيف العين وإثبات الألف. البدور الزاهرة ، ٥٤.
(١٠) و ، س م : أو ، ب.