فما شكرت أو إلى كم تأتيني وكم تؤذيني (١) أو كم تسأل ألا تستحيي (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) أي ثوابهم مهيأ (عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) في الآخرة (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [٢٦٢] على ما خلفوا من أمر الدنيا ، قيل : نزلت الآية في شأن عثمان ، اشترى بئر رومة ، اسم موضع في الحجاز ، وجعلها سبيلا على المسلمين (٢) ، ثم قال تعالى تأكيدا لنفي المنة ولا أذى (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) أي عدة حسنة أو رد جميل أو دعاء بالخير ، مبتدأ نكرة موصوفة ، وعطف عليه قول (وَمَغْفِرَةٌ) أي تجاوز عن الفقير إذا استطال أو عفو عن ذنبه وستر سره ، وخبر المبتدأ (٣) قوله (خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) أي من وتعيير على من يتصدق عليه (وَاللهُ غَنِيٌّ) عن صدقة منفق مان ومؤذ (حَلِيمٌ) [٢٦٣] حيث لا يعجل بالعقوبة ، وفيه سخط منه ووعيد له.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤))
ثم بالغ في الوعيد بقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ) أي أجورها (بِالْمَنِّ وَالْأَذى) فانه من فعل ذلك أجر له في صدقته وعليه وزر منه على الفقير ووزر إيذائه ، وقيل : ذهب الأجر فيهما وبقي (٤) الوزر في الإيذاء دون المن (٥) ، قوله (كَالَّذِي) صفة موصوف محذوف أي إبطالا مثل إبطال المنفق ، وقيل : هو في محل النصب على الحال (٦) ، أي لا تبطلوا صدقاتكم مماثلين الذي (يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ) أي لأجل رياء (النَّاسِ) يعني ليقال أنه كريم ولا يريد بانفاقه رضا الله وثواب الآخرة ، وهو المنافق (٧)(وَلا يُؤْمِنُ) أي ولا مماثلين بالذي لا يتصدق (بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وهو المشرك ، فانه إذا تصدق أبطل صدقته شركه كما يبطل صدقة المؤمن المن والأذى ، ثم بين مثل كل واحد من المنافق والمشرك المتصدقين بصدقة الرياء والشرك فقال (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ) أي حجر أملس (عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ) أي مطر شديد (فَتَرَكَهُ صَلْداً) أي نقيا لا تراب عليه ، يعني مثل المرائي والمشرك وصدقتهما يوم القيامة كمثل حجر عليه تراب فأزاله المطر ، كذلك فوت رياؤه وشركه ثوابه (لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) من العمل الخير ، يعني لا يجد المراؤون والمشركون بصدقاتهم ثوابا في الآخرة كقوله تعالى (فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً)(٨) ، أي (٩) لا ينتفعون بما فعلوا رياء ، وضمير الجمع عائد إلى «الذي» ، لأنه أريد به الجنس أو هو ك «من» الموصولة (وَاللهُ لا يَهْدِي) أي لا يرشد (الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) [٢٦٤] بالآخرة إلى الإخلاص وإلى الإسلام ، وفيه إيماء إلى أن الرياء من المؤمن كالكفر من الكافر لما روي أنهم قالوا : «يا رسول الله ما الشرك الأصغر قال عليهالسلام : الرياء» (١٠).
(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥))
ثم بين حال المنفقين بالإخلاص تبكيتا للمنفقين رياء بقوله (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) أي لطلب رضوانه (وَتَثْبِيتاً) أي تحقيقا (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي للتصديق الحاصل من أصل نفوسهم بثواب الآخرة وقصدهم بالإنفاق وجه الله من قلوبهم ، وفيه إيماء إلى الإيقان والإخلاص ، و (مِنْ) في (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) للابتداء ،
__________________
(١) كم تأتيني وكم تؤذيني ، م : كم تأتي وتؤذيني ، ب س.
(٢) عن الكلبي ، انظر الواحدي ، ٧٣ ؛ والبغوي ، ١ / ٣٧٨ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٢٢٨.
(٣) المبتدأ ، ب م : مبتدأ ، س.
(٤) بقي ، س : يبقي ، ب م.
(٥) لعله اختصر من السمرقندي ، ١ / ٢٢٩.
(٦) اختصره المؤلف من الكشاف ، ١ / ١٥٠.
(٧) وهو المنافق ، ب م : وهو المنافق قوله ، س.
(٨) الفرقان (٢٥) ، ٢٣.
(٩) أي ، م : أو ، ب ، و ، س.
(١٠) وهذا منقول عن البغوي ، ١ / ٣٨١.