أي تثبيتا صادرا من أنفسهم كقوله (حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ)(١) ، وقوله (كَمَثَلِ جَنَّةٍ) خبر المبتدأ (٢) وهو (مَثَلُ الَّذِينَ) ، أي مثلهم كمثل ثمرة بستان (بِرَبْوَةٍ) بفتح الراء وضمها (٣) ، أي في مكان مرتفع مستو من الأرض لا يعلوه الماء ولا يخلو عن شرب الماء فيكون نبته حسنا (أَصابَها وابِلٌ) أي مطر عظيم القطر (فَآتَتْ) أي أعطت (أُكُلَها) بسكون الكاف وضمها ونصب اللام (٤) ، أي ثمراتها (ضِعْفَيْنِ) أي مثلين ، يعني حملت تلك الجنة في سنة ما يحمل غيرها في سنتين (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ) أي مطر شديد (فَطَلٌّ) أي فالذي يصيبها طل ، وهو المطر الضعيف القطر ، والطل إذا دام عمل عمل الوابل ، المعنى : أن صدقة المؤمن المخلص تنفعه في الآخرة جلت أو قلت كما أن هذه الجنة تعطي ريعها كثر المطر أو قل (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [٢٦٥] من عمل الإخلاص والرياء فيجازيكم به.
(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦))
قوله (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) تأكيد لمنع الرياء وتحقيق للندامة (٥) على فاعله ، أي أيحب رجل منكم (أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ) أي بستان (مِنْ نَخِيلٍ) جمع نخل (وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) خصهما بالذكر وإن كان فيها غيرهما لقوله (لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) تفضيلا لهما وتغليبا على غيرهما ، لأنهما (٦) أكثر منافع العرب وأكرم (٧) الشجر عندهم (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ) أي والحال أنه بلغ نهاية السن (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ) أي أولاد صغار ، والجملة حال من ضمير المفعول في «أصابه» ، يعني عجزة لا حيلة لهم في معيشتهم ولا له في معيشته ومعيشة ذريته إلا من بستانه (فَأَصابَها إِعْصارٌ) أي ريح شديدة ترتفع إلى السماء كالعمود ، قوله (فِيهِ نارٌ) صفة «إعصار» ، أي في تلك الريح نار محرقة (فَاحْتَرَقَتْ) تلك الجنة ، فبقي الرجل متحيرا لا يجد ما يعود به عليها ولا قوة له أن يغرس مثلها ولا خير في ذريته من الإعانة لكونهم ضعفاء عاجزين عن أن يعينوه ، فذلك مثل المرائي بعمله ، لأنه بعث له الشيطان فأعمله الطاعات بالرياء فأحبطها الله كلها ، ثم ندم ولم ينفعه الندم ، وإن أحدكم إذا فارق الدنيا يكون أحوج من كل شيء إلى عمله (كَذلِكَ) أي كهذا (٨) البيان الذي بين فيما مر من الجهاد والإنفاق في سبيل الله وقصة إبراهيم وعزير وغير ذلك (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي الدلالات الواضحة (٩) في تحقيق التوحيد وتصديق الدين (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) [٢٦٦] أي تتدبرون فيها وتعتبرون بها.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧))
ثم حث المؤمنين بالإنفاق من الحلال الذي يحصل من الكسب بالتجارة والصناعة ، قال عليهالسلام : «ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده ، وإن داود عليهالسلام لا يأكل إلا من عمل يده» (١٠) ، فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا) أي تصدقوا (مِنْ طَيِّباتِ) أي من حلالات (ما كَسَبْتُمْ) أي ما جمعتم بعمل اليد من الذهب والفضة (وَمِمَّا) أي ومن طيبات ما (أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) من الحبوب والأثمار أو من المعادن
__________________
(١) البقرة (٢) ، ١٠٩.
(٢) المبتدأ ، ب م : مبتدأ ، س.
(٣) «بربوة» : قرأ ابن عامر وعاصم بفتح الراء ، والباقون بالضم. البدور الزاهرة ، ٥٥.
(٤) «أكلها» : قرأ نافع والمكي والبصري باسكان الكاف ، والباقون بضمها. البدور الزاهرة ، ٥٥.
(٥) للندامة ، ب س : الندامة ، م.
(٦) لأنهما ، ب م : لأنه ، س.
(٧) وأكرم ، م : وأكثر ، ب س.
(٨) أي كهذا ، ب س : أي كذه ، م.
(٩) الواضحة ، س م : الواضحات ، ب.
(١٠) أخرجه البخاري ، البيوع ، ١٥ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ١ / ٣٨٥.