(وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣))
(وَسارِعُوا) بواو العطف وتركها (١) للاستئناف ، أي بادروا (إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي إلى أسباب المغفرة من الله ، وهي التوبة من الذنوب كالزنا والربوا وغيرهما ، والأعمال الصالحة التي توجب لكم تكفير السيئات كالصلوات الخمس بمواقيتها والجهاد والإنفاق في سبيل الله (وَجَنَّةٍ) أي وسارعوا إلى عمل يوجب دخول الجنة (عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) مبتدأ وخبر في محل الجر صفة (جَنَّةٍ) ، أي عرضها مثل عرضهما ، وخص ال «عرض» بالذكر ، لأنه أقل من الطول غالبا ، والمراد وصفها بالسعة ، قيل : «كل جنة من الجنات عرضها كعرض السموات والأرض لو وصل بعضها ببعض» (٢) ، وهذا حث على اجتناب المحرمات والعمل بالحسنات سريعا قبل الفوت ، لأن في التأخير آفات (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [١٣٣] وصف آخر ل «الجنة» ، وفيه إيماء (٣) إلى أن قبول العمل بالتقوى لا غير.
(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤))
قوله (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) يجوز أن يكون صفة ل «المتقين» ويجوز أن يكون خير مبتدأ محذوف ، أي هم الذين ينفقون أموالهم (فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) أي في حال اليسر والعسر ، وقيل : في الصحة والمرض (٤) ، وفيه حث على التصدق بما أمكن على كل حال قل أو كثر ، قال عليهالسلام : «السخي قريب من الله ، قريب من الجنة ، قريب من الناس ، بعيد من النار ، والبخيل بعيد من الله ، بعيد من الجنة ، بعيد من الناس ، قريب من النار» (٥)(وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) أي الجارعين الغضب في أجوافهم عند امتلاء نفوسهم به ، ومنه كظم السقاء ، أي شده بعد ملئه ، والمراد : أنهم لا يظهرون ما في نفوسهم من الغيظ ، قال عليهالسلام : «من كظم غيظا وهو يقدر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء» (٦)(وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) أي الذين يعفون عمن ظلمهم وأساء إليهم (٧) بعد قدرتهم عليه أو عن مماليكهم لسوء أدبهم (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [١٣٤] واللام فيه للجنس ، أي يحب كل محسن من الأحرار والمماليك ، قال عليهالسلام : «ينادي مناد يوم القيامة أين الذين كانت أجورهم على الله فلا يقوم إلا من عفا» (٨).
(وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥))
قوله (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) استئناف ، نزل في رجل تمار ، جاءت امرأة تشتري منه تمرا فأدخلها في الحانوت وقبلها ، ثم ندم على ذلك (٩) ، فعم في كل من أذنب ذنبا وطلب التوبة ، أي الذين فعلوا الكبائر من الزنا وغيره (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بفعل الصغائر كالقبلة واللمسة (ذَكَرُوا اللهَ) أي وعيده وعقابه (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) أي باللسان وندامة القلب ، لأن الاستغفار باللسان بغير ندامة القلب توبة الكذابين (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه لوصف سعة رحمته وقرب مغفرته للتائبين ، وفيه بعث (١٠)
__________________
(١) «وسارعوا» : قرأ المدنيان والشامي بغير واو قبل السين ، والباقون باثباتها. البدور الزاهرة ، ٧٠.
(٢) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ١ / ٢٩٨.
(٣) إماء ، ب م : إشارة ، س.
(٤) وهذا القول منقول عن السمرقندي ، ١ / ٢٩٩.
(٥) أخرج الترمذي نحوه ، البر ، ٤٠ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ١ / ٥٤٩.
(٦) رواه أحمد بن حنبل ، ٣ / ٤٣٨ ؛ وأبو داود ، الأدب ، ٣ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٢٩٩ ؛ والبغوي ، ١ / ٥٤٩.
(٧) وأساء إليهم ، م : ـ ب س.
(٨) ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.
(٩) عن ابن عباس ، انظر الواحدي ، ١ / ١٠٤ ـ ١٠٥ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٣٠٠.
(١٠) بعث ، ب س : حث ، م ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ١ / ٢٠١.