(إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠))
ثم قال تعزية لهم (إِنْ يَمْسَسْكُمْ) أي إن يصبكم (قَرْحٌ) بفتح القاف وضمها (١) ، أي جراحة (فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ) أي الكفار ببدر (قَرْحٌ مِثْلُهُ) قيل : قتل المسلمون من الكافرين ببدر سبعين وأسروا سبعين ، وقتل الكافرون بأحد من المسلمين سبعين وأسروا سبعين (٢) ، وفيه ضعف لما سيأتي ويدل على المماثلة قوله تعالى (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ) أي أيام الظفر والغلبة (نُداوِلُها) أي نصرفها (بَيْنَ النَّاسِ) أي بين المسلمين والكافرين تارة لهم وتارة عليهم ، ومنه قول العرب : «الحرب سجال» (٣) ، أي مساجلة ، وهي المناوبة بأن يصنع أحد مثل صنع قرينه في جري أو (٤) سقي أو غير ذلك بالتوبة ، وأصله من الدلو إذا كان فيه ماء قل أو كثر ، قوله (وَلِيَعْلَمَ) عطف على العلة المقدرة ، أي فعلنا ذلك ليتعظوا وليعلم بالتمييز والإظهار (اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) بالإخلاص شكوا (٥) في دينهم فيجازون على ما فعلوا ، لأن المخلص يتبين حاله في الشدة والبلاء فيعطي ثوابه بما يظهر منه لا بما يعلم منه (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) أي لكي يكرمكم بالشهادة لا لأجل نصر الكفار وحبهم (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [١٤٠] نفوسهم بالكفر والنفاق.
(وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١))
قوله (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ) عطف على (لِيَعْلَمَ) ، أي ليطهر ويصفي (الَّذِينَ آمَنُوا) من الذنوب قتلوا أو قتلوا بالجهاد ، من محصت الذهب إذا أزلت (٦) منه الوسخ (وَيَمْحَقَ) أي ويهلك بالاستئصال (الْكافِرِينَ) [١٤١] لأنهم بذلك يتشجعون فيخرجون تارة أخرى فيهلكون.
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢))
(أَمْ حَسِبْتُمْ) أي أظننتم ، فالهمزة للإنكار والميم صلة (أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) قبل أن تصيبكم شدة في دين الله وهو المراد من (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ) بكسر الميم للساكنين ، والواو واو الحال و (لَمَّا) بمعنى لم إلا أن في (لَمَّا) معنى التوقع ، وأراد (٧) به أن لما يدل (٨) على نفي الفعل فيما مضى وعلى توقع ثبوته فيما يستقبل ، أي ولم يعلم الله (الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) يعني ولم يظهر جهاد المجاهدين في سبيله بعد بقتل أو جرح أو غيرهما (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [١٤٢] بالنصب باضمار «أن» ، والواو بمعنى الجمع ، وبالجزم (٩) على العطف على (وَلَمَّا يَعْلَمِ) لكن فتحت الميم لالتقاء الساكنين اتباعا للام ، والمعنى : أتحسبون دخول الجنة والحال أنه ما اجتمع علم الله بالمجاهدين منكم وعلمه بالصابرين منكم في الشدائد.
(وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣))
قوله (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) أي القتل والشهادة ، قيل : كان غرضهم قصدهم إلى نيل كرامة الشهادة لا غلبة الكافر على السملم (١٠)(مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) أي تلاقوه وتصلوا إليه (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) بأعينكم يوم أحد (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [١٤٣] عيانا أسباب الموت ، وهي السيوف السهام ، نزل عتابا لهم حين وصف الله لهم الكرامة النازلة
__________________
(١) «قرح» : قرأ شعبة والأخوان وخلف بضم القاف ، والباقون بفتحها. البدور الزاهرة ، ٧٠.
(٢) أخذه عن البغوي ، ١ / ٥٥٥ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٣٠٤.
(٣) هذا مذكور في البغوي ، ١ / ٥٥٦ ؛ والكشاف ، ١ / ٢٠٢.
(٤) أو ، ب س : و ، م.
(٥) شكوا ، ب س : يشكوا ، م.
(٦) إذا أزلت ، ب م : إذا زالت ، س.
(٧) وأراد ، س : وأرادوا ، ب م.
(٨) لما يدل ، ب م : لما تدل ، س.
(٩) أخذ هذه القراءة عن الكشاف ، ١ / ٢٠٣.
(١٠) لعل المصنف اختصره من البغوي ، ١ / ٥٥٧ ؛ والكشاف ، ١ / ٢٠٣.